في زيارة هي الثانية لها، منذ توليها منصبها، جاءت زيارة جورجيا ميلوني رئيسة وزراء إيطاليا إلى ليبيا في 7 مايو 2024، في توقيت لافت للنظر؛ إذ تأتي الزيارة في توقيت يُسيطر فيه الجمود السياسي على المشهد الليبي، خاصة بعد استقالة المبعوث الأممي إلى ليبيا عبد الله باتيلي. وفي الوقت نفسه، تأتي الزيارة في توقيت تواجه فيه إيطاليا، ودول جنوب أوروبا عموما، تحدي السيطرة على تدفقات الهجرة غير النظامية، من أفريقيا عبر دول المغرب العربي، بما في ذلك ليبيا.
أضف إلى ذلك، أن الزيارة تأتي في توقيت تتوجه فيه روسيا إلى نشر قوات جديدة، في ليبيا ومنطقة الساحل الأفريقي، تحت مُسمى “الفيلق الأفريقي”؛ بما يعنيه ذلك من فرض تداعيات مؤثرة على ملف المهاجرين الأفارقة إلى أوروبا، خاصة في إطار إمكانية استغلال روسيا لهذه الأزمة التي تعانيها أوروبا، للضغط على الدول الأوروبية، في سياق الصراع المتنامي بين روسيا والغرب بخصوص الحرب الروسية في أوكرانيا.
تأتي التحركات الإيطالية الأخيرة لتفعيل عدد من الملفات الحيوية، بالنسبة إلى السياسة الخارجية الإيطالية مع ليبيا.. لعل أهمها ما يلي:
من جانب، أهمية تنويع الشراكات الإيطالية في قطاع الطاقة؛ حيث يُشكل ملف الطاقة إحدى أولويات زيارة ميلوني إلى ليبيا، في ظِل مساعٍ إيطالية لتنويع الشراكات في هذا القطاع؛ خاصة أن ليبيا هي أحد المصادر البديلة المتوقعة، لتوفير مصادر طاقة لإيطاليا وأوروبا، كون ليبيا “غير خاضعة” لقرار منظمة أوبك القاضي بخفض الإنتاج النفطي.
ويُعد الغاز الليبي تحديدا مسألة حيوية بالنسبة إلى إيطاليا، خاصة في ظل تراجع الإمدادات الروسية إلى أوروبا؛ بل يُعد هذا الملف ضمن الملفات التي تتطلب مُتابعة “دورية” من روما، لاسيما في ظل التنافس الإيطالي الفرنسي على النفط والغاز الليبيين؛ وهو التنافس الذي تقوده شركتي “إيني” الإيطالية و”توتال” الفرنسية.
وتزداد حدة هذا التنافس في إطار الاحتياطيات التي تمتلكها ليبيا من الغاز، والتي تصل إلى 1.4 تريليون متر مكعب، بما يضع ليبيا في المرتبة الخامسة بين الدول الأفريقية المُنتجة له؛ هذا فضلا عن امتلاكها احتياطيات نفطية تصل إلى 48.2 مليار برميل نفط، بنسبة تصل إلى حوالي 2.8% من إجمالي الاحتياطي العالمي للنفط.
وبالتالي، لم يكن من المصادفة أن تُشرف ميلوني بنفسها، خلال زيارتها الأولى إلى ليبيا، في 28 يناير من العام الماضي، 2023، على توقيع الاتفاق بين شركة “إيني” ومؤسسة النفط الليبية، لمدة 25 عاما وبقيمة 8 مليارات دولار، ويتضمن توسيع نشاط شركة إيني لزيادة القدرة الإنتاجية لحقلين بحريين للغاز إلى نحو 800 مليون قدم مكعب؛ في حين أنها كمثال، لم تُعِر نفس الاهتمام لتوقيع “اتفاق مكافحة الهجرة غير النظامية”، الذي تم وقّع عليه في نفس اليوم.
من جانب آخر، تأتي مواجهة تدفقات الهجرة غير النظامية؛ ففي ختام زيارتها إلى ليبيا، قالت ميلوني في تصريح للصحافيين “ليبيا أولوية بالنسبة إلى إيطاليا، ولاستقرار البحر الأبيض المتوسط وللأمن الإيطالي، وللتحديات الكبرى التي تواجه أوروبا، مثل أزمة الطاقة واللجوء”؛ لتكشف بذلك عن أهم الأسباب في توجيه البوصلة الإيطالية نحو ليبيا، ليس فقط بسبب الطاقة، ولكن أيضا نتيجة الهجرة غير النظامية.
واللافت للنظر هنا، أن هذه هي المرة الأولى التي تقوم فيها ميلوني بزيارة بنغازي للقاء قائد الجيش الوطني الليبي، المشير خليفة حفتر. وكما يبدو، فإن هذه الزيارة لا تستهدف فقط محاولة التوازن الإيطالي بين غرب ليبيا وشرقها، أو الدخول على خط التعاون الروسي مع الشرق الليبي؛ ولكن أيضا محاولة تقديم حوافز سياسية وأمنية لاستقطاب دعم السلطات في شرق ليبيا، للمساعدة في مواجهة أزمة الهجرة غير النظامية عبر الأراضي الليبية إلى إيطاليا.
فبينما تراجعت مؤشرات تدفق الهجرة من غرب ليبيا، ظهر مسار جديد لها عبر السواحل الشرقية لليبيا. وكان حفتر قد أجرى زيارة إلى إيطاليا، في 4 مايو من العام الماضي، 2023، لطلب المساعدة في مواجهة الهجرة غير النظامية؛ ومن ثم يبدو أن زيارة ميلوني إلى شرق ليبيا، كانت تستهدف الوصول إلى توافق حول سُبل الحد من تدفقات الهجرة.
من جانب أخير، محاولة ملء فراغ التراجع الفرنسي في أفريقيا عموما، وفي منطقة الساحل الأفريقي بشكل خاص؛ إذ تأتي زيارة ميلوني إلى ليبيا، تحديدا، لتؤكد على محاولة إيطاليا في ملء الفراغ الذي سببه التراجع الفرنسي، خاصة في منطقة الساحل بعد الانقلابات الحاصلة فيه، واحتواء الإرباك الذي تسبب به التنافس الفرنسي الإيطالي بخصوص ليبيا، وعموم منطقة الساحل، عبر تقديم مقاربة جديدة لتواجد إيطاليا في القارة الأفريقية، وتقوية نفوذها فيها.
وبالتالي، تأتي زيارة ميلوني إلى ليبيا، شرقها وغربها، لتستهدف تنشيط الدور الإيطالي، في ظل التحركات الدبلوماسية من جانب القوى الدولية والإقليمية المعنية بالساحة الليبية، ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وفرنسا، فضلا عن تركيا ودول الجوار الليبي العربية.
ولا يتوقف القلق الإيطالي عند حدود التنافس مع فرنسا على الساحة الليبية؛ بل يُضاف إلى ذلك تزايد القلق لدى روما من توسع النفوذ الروسي في شرق ليبيا، خاصة بعد إعلان موسكو عن استراتيجية جديدة، ترتكز على نشر قوات “الفيلق الأفريقي” في ليبيا والساحل الأفريقي؛ بما يُمكن أن يُزيد من تداعيات أزمة الهجرة غير النظامية، في حال استغلال روسيا لهذه الورقة، لممارسة الضغوط على إيطاليا ودول جنوب أوروبا، في مقابل العقوبات الأوروبية على روسيا، جراء الحرب في أوكرانيا.
في هذا السياق، يمكن القول بأن إيطاليا، على غرار القوى الدولية الأخرى، تحاول استثمار التطورات السياسية في ليبيا، من أجل تنشيط دورها على هذه الساحة، التي يتنافس حولها عديد من القوى الدولية والإقليمية، لخدمة مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية. وقد كان لافتا مدى حرص ميلوني على عقد لقاءات مع طرفي الصراع على الساحة الليبية؛ حيث التقت رئيس الحكومة الليبية في طرابلس عبد الحميد الدبيبة، ثم التقت قائد الجيش الليبي المشير خليفة حفتر في بنغازي.
هذا، بالإضافة إلى الحسابات الداخلية التي تدفع روما إلى التغيير السياسي في سياساتها الخارجية، بخصوص التطورات الحاصلة في الملف الليبي؛ إذ تُدرك ميلوني أهمية الملف الليبي، خاصة في ما يتعلق بالحشد الداخلي لتأييد سياساتها الخارجية، على الأقل بخصوص ملف الهجرة غير النظامية، الذي تسبب في حملة نقدية طالت سياسات حكومة ميلوني في الداخل الإيطالي خلال الفترة الماضية.