مختارات

الشرايين المفتوحة للسودان.. فوضى الوسطاء

رند وهبة – نقلا عن الأخبار اللبنانية

بينما تدور عجلة الأحداث في السودان وتدور حولها النقاشات وطاولات البحث، وفوضى أحداث تقابلها فوضى في مراكز القرار لدى القوى الدولية والإقليمية، تدور أيضا جهود الوسطاء لحل الصراع في السودان بدون فائدة. ومن بين كل الأطراف الإقليمية والدولية التي تمتدّ أيديها إلى الداخل السوداني، هناك أربعة فقط يمكننا أن نجزم بمصلحتها المطلقة في الاستقرار الكامل في السودان، هي الصين ومصر والجزائر وروسيا.

بالنسبة إلى الصين التي لطالما بنت علاقاتها مع الدول الأفريقية على قاعدة الاستفادة المتبادلة، فإن مصالحها مع السودان أبعد بكثير من استخراج الموارد والثروات (علما أن النفط السوداني كان من أهم عوامل النهضة الصناعية الصينية)، فالسودان بالنسبة إلى الصين استراتيجي كمدخل لعمق القارة من الساحل الشرقي كما ذكرنا، ولأنه يحتضن أهم تقاطع لخطوط النقل والاتصال التي تعمل عليها الصين في القارة من جنوب أفريقيا إلى مصر من جهة، ومن جهة أخرى من سواحل البحر الأحمر إلى الأطلسي، أي ما يسمى بمنطقة الساحل وهي المنطقة التي يُتوقع أن تكون أكثر جبهات الصراع العالمي احتداما في المستقبل القريب.

أمّا في ما يخص مصالح مصر في الاستقرار، فهي بديهية لناحية الأمن بمعناه العسكري والديموغرافي والاقتصادي والمائي. والجزائر، بدورها، تبني استراتيجية تنموية قائمة على تهدئة الصراعات والتنمية في المحيط الأفريقي. وفي ما يخص روسيا فصحيح أن الذهب القادم من غرب السودان، والخاضع لسيطرة حميدتي، مهم لها استراتيجيا ضمن مخطط تقويض الدولار كعملة التبادل التجاري العالمي، إلا أن مصلحة روسيا العليا هي القاعدة البحرية العسكرية في بورتسودان، إذ إن روسيا هي القوة الدولية الكبرى الوحيدة التي لا تمتلك قاعدة على البحر الأحمر. وهنا لا بد من الإشارة إلى الصدفة العجيبة، بأن السودان المحاصر والجائع (بالرغم من أن غالبية الدول العربية تؤمّن غذاءَها من الأراضي السودانية) نجا من نيران الربيع العربي، إلى أن استدار البشير مجددا وتصالح مع سوريا وطالب بإقامة القاعدة البحرية الروسية على سواحل بلاده، فإذا بالثورة تنفجر في وجهه، وبعد إسقاط البشير بدأ الأميركيون بترقّب مصير هذه القاعدة مع التغيرات في الداخل السوداني، وبدأ المحللون الأميركيون بالمراهنة على تعقيد العلاقة بين حميدتي والبرهان لإعاقة إنشائها، بل تحدّث بعضهم عن أن روسيا دفعت قوات «فاغنر» للتنسيق مع حميدتي لكي تضمن روسيا دور الوسيط بين الرجلين وتسهّل بذلك إنشاء قاعدتها. وبهذا لا يمكن إغفال احتمال أن تكون زيارة لافروف للسودان في شباط الماضي وبحثه في مسألة هذه القاعدة مع المسؤولين السودانيين صاعق التفجير الحقيقي للصراع. ويبدو أن روسيا اليوم، وبعد الحرب الأوكرانية، أكثر إصرارا من أي وقت مضى على تعزيز نفوذها في أفريقيا، وبشكله العسكري تحديدا، في دول متعدّدة، على رأسها السودان، إذ إن لافروف وحده قد أتمّ أربع جولات أفريقية خلال عام واحد.

في المقابل، هناك قوى دولية لا تملك خيارا سوى الاستثمار في الصراع ولو مرحليا، مثل فرنسا التي تصارع للحفاظ على آخر معاقلها في القارة في التشاد على الحدود مع دارفور (قبل عقود خرجت فرنسا من شرق القارة بفعل ترويكا أنغلوسكسونية واليوم تخرج من غربها بفعل ترويكا روسية جزائرية غرب أفريقية). ونظرا إلى العلاقات بين قوات فاغنر وحميدتي، تبدو مصلحة فرنسا واضحة في إشعال الجبهات ودعم القوى الانفصالية في دارفور تحديدا، وسيكون من السذاجة إغفال هذا الدافع في تفسير أخبار إلقاء القبض على جنود فرنسيين على الحدود السودانية التشادية قبل أسابيع. أمّا دول مثل السعودية والإمارات، فتبدوان وكأنهما تسحبان تجربتهما من اليمن إلى السودان. وإن كان لهما مصالح في تقسيم السودان، ولو كمناطق نفوذ، فإنّ النوايا الأميركية (ومعها الترويكا) تذهب إلى أبعد من ذلك بالاستثمار أكثر في استراتيجية الحروب المنخفضة الوتيرة في السودان، وذلك لسدّ الطريق وقلب الطاولة في وجوه كل اللاعبين الدوليين المتزاحمين على أرض السودان، بالإضافة إلى كل الأسباب التاريخية لتبنّيها هذه الاستراتيجية في المنطقة.

تكتمل أركان هذه الاستراتيجية اليوم من خلال اللغة المتداولة لتوصيف الصراع والتي هي في الحقيقة تكاد تكون إعلانا صريحا للنوايا؛ أولا مع تكرار الدعوات لضرورة إدخال تنويعات مختلفة لقوات إقليمية أو دولية. ثانياً، مع تكرار سردية أن السودان في طريقه إلى الانهيار، والأخطر من ذلك الترويج لفكرة أن الصراع ليس بين رجلين فحسب أو بين مؤسستين عسكريتين بل إنه يأخذ طابعا عرقيا (هناك مغالطة كبرى تتكرر هنا كما حصل في رواندا وجنوب السودان ودارفور في تعريف أطراف الصراع، حيث يتم تصوير الجنجويد كمكوّن عرقي وقبلي، بينما الظاهرة هي حديثة نسبيا وهي تعبّر عن طيف واسع من السكان الرحّل الذين تشردوا نتيجة الصراعات والجفاف في الإقليم منذ نهاية الاستعمار البريطاني).

وثالثا، مع تخصيص مليار ونصف مليار من المساعدات الأممية للسودان من قبل الدول الغربية وبعض الدول العربية، لا يوجد أي مبرّر للاعتقاد بأنها لن تكون استثماراً في الاقتصاد الجيوسياسي لصراع مستدام كما تكرّس في الماضي.

قبل النهاية، من الجدير بالذكر أن إجلاء المواطنين الأميركيين من السودان أثار شبهات كبرى لم يتم نفيها، حيث استطاعت دول متعددة، ومنها بريطانيا، إجلاء كلّ مواطنيها عبر الجو إلى جيبوتي، بينما تميّز الإجلاء الأميركي بإحضار 3 مدمرات إلى بورتسودان وتسيير غطاء جوي من الخرطوم إلى الساحل في عملية إجلاء تطلّبت، بحسب الأميركيين، دقة استثنائية لحساسية مقدّرات السفارة الأميركية وملفاتها – إلى الحد الذي قاد الأميركيين إلى تكريم 12 عنصرا من مشاة البحرية شاركوا في هذه العملية. والمهم هنا أنه لا توجد أخبار متداولة لانسحاب المدمرات التي يرى كثيرون أن الإجلاء كان مجرد ذريعة غير مقنعة لتسييرها إلى بؤرة الصراع.

إن كان على السودان استخلاص درس واحد من تاريخه المعاصر فهو الريبة من المنقذ الغربي، وصحيح أن البرهان جدير بأطول معلّقات الهجاء وهو للناحية الوطنية والإنسانية ليس بأفضل من حميدتي، إلا أن مصلحة السودان وشعبه وشعوب الإقليم هي في الاستقرار المقرون بسيطرة الجيش حصرا، سواء أكان ذلك بالتوصل إلى اتفاق أم بالقوة. وعلى الأغلب فإن أمرا كهذا سيحتاج إلى ضغط وعمل مشترك استثنائي بين القوى المستثمرة في الاستقرار. قد تكون هناك نهاية أكثر إشراقا للسودان فيما لو بُذرت فيها قوة محلية تستمد من تجربة محور المقاومة وتعمل معه، لكن حتى اليوم فلا بشائر تدلّ على ذلك، بالرغم من أن للسودان تجربة مقاومة مهمة ضد البريطانيين على أيدي الحركات الصوفية، لكن لا أحد يعلم إن كان إحياؤها أمراً ممكناً أو فعّالاً في الحاضر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock