رؤى

عائشة بنت يوسف الباعونية.. امرأة جمعت المجد من أطرافه!

إنها إحدى الأقمار المضيئة التي أنارت بعلمها عالمنا العربي والإسلامي، في تلك القرون التي أسماها الغرب بالقرون الوسطى، والتي كانت قرون ظلام وجهل في بلادهم، بينما كانت عصور تنوير وعلم في بلادنا.. وشتان بين اليوم والبارحة!

يقول ابن عربي: “كل مكان لا يؤنَّثُ لا يُعوَّل عليه” هكذا أعلت قيمنا وحضارتنا من شان المرأة واحترمتها أشد الاحترام، حتى جلست على سدة الحكم، دون ممانعة الرجال مثل: أروى الصليحية في اليمن، وضيفة خاتون في دمشق وغازية خاتون في حماة وشجر الدر في مصر.

ليس هذا فحسب.. فقد تصدرت المرأة العربية مجالس العلم والأدب ومنابر الدرس والفقه.. فكانت ذات رأي فيما يشغل الناس من الأمور العامة.. وهذه عائشة بنت يوسف بن أحمد بن ناصر الدمشقية الشافعية الصوفية الملقبة بالباعونية نسبة إلى قرية باعون الواقعة قرب مدينة عجلون شرق نهر الأردن- خير مثال على ما نقول.

عاشت عائشة نحوا من ستين عاما بين القرنين التاسع والعاشر الهجريين، وكانت شاعرة وفقيهة ومتصوفة.. بزَّت رجال عصرها في الفقه والسيرة النبوية وعلوم العربية والتصوف.

في العام 2006، قررت منظمة اليونسكو تنظيم احتفالية بمناسبة مرور خمسمئة عام على ميلاد تلك المرأة العظيمة،  وفي نفس العام وبالقرب من مسقط رأسها وضمن فعاليات مهرجان جرش للثقافة والفنون، كُرّم اسمها أيضا بوصفها إحدى أهم السيدات اللاتي أضأن للبشرية طريقها.

تحدرت عائشة من بيت عريق في العلم والأدب؛ عُرف أهله بالزهد والتصوف.. وكان والدها قاضيا من أعلام القضاء في بلاد الشام.

وصفها خير الدين الزركلي في كتابه “الأعلام” بأنها كانت “امرأة فاضلة، أديبة لبيبة عاقلة، كان على وجهها لمحةٌ جمَّلها الأدبُ وحلَّتْها بلاغةُ العرب، فجعلتْها بغية الراغبين في العلم والأدب، وكانت عالمةً بالفقه والنحو والعروض”.

وخلال رحلتها العلمية في عدد من المجالات أنجزت الباعونية نحوا من ثلاثين كتابا، طبع عدد منها، ووجد عدد آخر في مخطوطاته، ووردت أسماء الكتب الباقية وأشير إليها في غير موضع، ولم يُعثر لها على أثر؛ فصُنّفت في عداد المفقودات.

“من مؤلَّفاتها المطبوعة “الفتح المبين في مدح الأمين”؛ ومن أهم المخطوطات “در الغائص في بحر المعجزات والخصائص”، ويتضمن هذا المخطوط قصيدة رائية عدد أبياتها 1740 بيتا، وتحتوي على ذكر صفات الخالق وصفات الرسول الكريم. وقد عُدَّتْ عائشة الباعونية من الخطَّاطات المبدعات: فقد كتبت بخطِّها مؤلَّفاتِها، ومنها: “البديعية والملامح الشريفة في الآثار اللطيفة” و”فيض الفضل”، وهو محفوظ في دار الكتب المصرية”.

يروى عنها أنها حفظت القرآن طفلة، وتلقت العلوم الدينية بالإضافة إلى علوم اللغة وآدابها على يد علماء عصرها مثل: الشيخ جمال الدين إسماعيل الحوراني والعلاَّمة محيي الدين الأرموي.. ثم أنها رأت أن تسلك مسلك المتصوفة، فظهرت مواهبها في الشعر “فمضت في رحلة كشفها على هدي من كبار أقطاب الصوفية وشعرائهم، من أمثال ابن عربي وابن الفارض والبوصيري… فبلغت عائشة الباعونية في الشعر مقاما وَصَفَه بعضهم بأنه فاق، بين المولَّدين “المحدثين” من الشعراء والأدباء آنذاك، ما بلغتْه الخنساء بين الجاهليين”.

اعتزلت عائشة حياة الناس وانشغلت بالتنسُّك لفترة؛ إلا أن ذلك لم يدم طويلا إذ سرعان ما غادرت الباعونية صومعتها، “فأجيزت في الإفتاء والتدريس، واقترنت من بعدُ برجل معروف، فانعطفت حياةُ الشاعرة لتتماشى والشهرةَ التي حظيت بها لدى العامة والخاصة. وسبقها صيتُها إلى البلدان التي ساحت بها طلبًا لمزيد من العلم، مثل حلب والقاهرة. ودرس وتتلمذ على يديها جملة من العلماء الأعلام، وانتفع بعلمها خلقٌ كثير من طلبة العلم، وفقًا للمؤرخين”.

في أخريات حياتها سعت عائشة لتمكين ابنها البكر (عبد الوهّاب) من احتلال منصب رفيع؛ فغادرت الشام إلى القاهرة التي كانت تغلي بالأحداث بسبب تهديد العثمانيين لدولة المماليك، ورغم أنها استطاعت لقاء السلطان قنصوه الغوري، الذي سمع من شعرها مديحا كان سيطرب له كثيرا لولا أنه كان في شُغل عن ذلك بالخطر المحيق بعرشه- إلا أنها لم تتمكن من تحقيق ما ابتغت وعادت إلى دمشق خائبة حزينة.. وما هي إلا أيام حتى سقطت دمشق في أيدي العثمانيين الغزاة، وتلتها القاهرة بعد شهور.

رحلت عائشة إلى جوار ربها بعد حياة حافلة بالسعي في طلب العلم، ونشر نوره بين جموع المسلمين.. ودفنت الباعونية في بستان الشلبي بمنطقة زقاق طاحونة الأحمر من ضواحي دمشق “ومن بين الذين أرَّخوا لها وترجموا سيرتها الأدبية والعلمية: محمد الحنبلي في كتابه “در الحبب في تاريخ أعيان حلب”، ومحمد الغزِّي في كتابه “الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة”، ويعقوب العودات في كتابه “القافلة المنسية”، وقتيبة الشهابي في كتاب “معجم دمشق التاريخي”، وجميل نعيسة في كتابه “مجتمع مدينة دمشق”، وزينب فواز في “الدر المنثور في طبقات ربات الخدور”. كما أُدرِجَ اسمُها في موسوعة الشعر العربي الصادرة عن “المجمَّع الثقافي”، أبو ظبي.

رحم الله الباعونية التي جمعت المجد من أطرافه فصارت مثلا لنساء الأمة.. لا يُمحى ذكره أبدا.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock