رؤى

جمال الدين الافغاني.. وهج الشرق ومنارته!

لم تقف دعوة السيد جمال الدين الافغاني عند منتهى، ولا هو خصَّ بفضلها أمة دون غيرها من الأمم.. فلقد كان الرجل بصيرا بما منحه الله من وهج المعرفة؛ ليضيء الطريق للناس كافة؛ فلم ترد حِيَلُ الأفاعي من بني الإنسان عزمه، ولم توهنه الوشايات عن المُضي في دربه، ولم يرهبه بطش السلاطين وبغي الحكام الجائرين.

يقول السيد: “أنا جمال الدين الأفغاني الحسيني.. وإنه سيان عندي طال العمر أو قصر.. فإن هدفي أن أبلغ الغاية، وحينئذ أقول: فزت ورب الكعبة!”. ولا شك أنه كان كما وصف نفسه “حقيقة كلية تجلت في كل ذهن بما يلائمه، أو قوة روحية قامت لكل نظر بشكل يشاكله”.

كما أنه لا يجاوز حدود الصدق قيد شعرة حين يقول: “أنا جمال الدين الأفغاني الحسيني، وإن كافة العلوم بحمد الله مخزونة في صدري؛ فلا تنظر إلى وحدتي وصغر جسمي، فإني أستطيع أن أطمس جبل دماوند (أعلى جبال إيران) بقبضة يدي الصغيرة”.

لقد كان السيد مبعوث العناية الإلهية للشرق؛ ليخرجه من ظلمات الجهل والاستبداد إلى نور العلم والحرية.. يقول: “…وإني خصصت جهاز دماغي لتشخيص داء الشرق وتحري دوائه؛ فوجدت أقْتَلَ أدوائه وما يعترض في سبيل توحيد الكلمة فيه- داء انقسام أهليه وتشتت آرائهم واختلافهم على الاتحاد واتحادهم على الاختلاف! فقد اتفقوا على أن لا يتفقوا ولا تقوم على هذا للقوم قائمة”.

حملت الأقدار الشيخ إلى مصر التي رأى فيها دائما أمل الإسلام والعروبة.. بل أمل الشرق كله، وما إن حلَّ بها حتى جدَّ في العمل بلا كلال؛ ليصبح بعد أشهر قليلة من قدومه “…قبلة الملتمسين شفاعة العلم لتحرير العقول من الجهالة”.

ويصف الأفغاني سنواته في مصر قائلا: “ثماني سنوات قضيتها بمصر، فأوحيت إلى عقل البلاد الخامل المنطق والفلسفة وعلوم اللغة والرياضيات؛ كما أسررت لوجدانها بالثورة على حكامها المستبدين”.

لقد ترك السيد آثاره الباقية أينما حلَّ، ولكن مصر وقد خصها السيد بأطول فترة مكث متواصلة قد حفظت له الكثير من الآثار، ما تزال باقية ميراثا مباركا تنتفع منه الأجيال على مر العصور، إذ أن الروح الثورية التي بثها منذ وطئت قدماه أرض مصر، ما لبثت أن تأججت في النفوس، في الثورة العرابية، التي كان رجالها بعض تلاميذ أفكار السيد التي تمثلت في الدعوة إلى التحرر من حكم وكلاء بريطانيا في مصر، وإن كان ذلك لم يتحقق على أرض الواقع إلا بعد عقود طويلة، إلا أن هذه الروح التي أشعل جذوتها السيد جمال الدين، صارت ممتدة الأثر ليس في مصر وحدها بل في الشرق بأسره.

الثورة العرابية
الثورة العرابية

ثم كان أن نفاه الخديوي توفيق إلى الهند، فظل بها ولم يسمح له بمغادرتها حتى هدأت الثورة العرابية، ثم سُمِحَ له بالسفر، فغادر إلى لندن ومنها إلى باريس التي أصدر فيها مجلة “العروة الوثقى”.

ويأسف السيد كل الأسف من هذا الجور الذي صار لصيقا بالوادي الطيب منذ آلاف السنين.. بما يعزّ معه السبيل إلى الخلاص من هذا الداء العضال، وهو يفسر ذلك بقوله: “كأن القوة الفرعونية أخذت على الدهر عهدا أن لا تبرح وادي النيل؛ فكلما قضى فرعون تقمص بآخر وكلما انقرضت عائلة فرعونية ادعت إرثها عائلة، وجاءت ولو من وراء البحار والتصقت بالنسب الفرعوني، ولو بأقل مشابهة من خلق الغطرسة والتأله على الناس”.

لقد صَاوَلَ السيد الظلم أينما حلَّ، فلم يُهادِن على ضيم، ولم يسكت عن حق مضيع، وقد صَرَفَ حِدَّة طبعه المشتهرة إلى أهل الكبر؛ متصدقا بها عليهم! يجوب البلاد داعيا للثورة منتصرا للإنسان، غير هيّابٍ لاضطهاد، ولا مكترث لنفي أو إقصاء.

لله درُّه وكأنَّه مسيح زمانه، فلا بيتَ يتخذ للمأوى، ولا متاع يُحمل أو يُعتنى به، ولا مال يحفل به أو يُثترى، ولا جزع لحادثة من حوادث الدنيا – مهما عظمت- حتى أنَّه وقد غرم ضريبة قول الحق مرارا، ما يرى في نفسه إلى خمولا قعد به عن بلوغ مرتبة الشهداء، ولا ينظر إلى ما لاقاه طيلة حياته من عنت؛ إلا كنظره إلى قليل محتقر- ودَّ لو كان أربى وأكثر، فما مضرة نفسه لديه بذي بال وقد ذاب بالكلية في هموم أمَّة؛ قد جَثَتَ دهرا تحت وطأة الظلم والاستبداد؛ فعانت زمنا من الجهل وما يورثه في النفوس من ركون إلى الظالمين، وقبول لبطش المتجبرين؛ حتى جاء موقظا للشرق كافة، ومؤذنا للإسلام بفجر جديد قد غاب عن أمته قرونا.

فإذا سُئل عن ترجمة حاله، فإذا به يبتسم ويقول: “إن البيان لا يحتاج إلى ترجمان، قل لهم ما قال فلان (يقصد أبا الضلال الذي أكل الحسد صدره على السيد) عن أنه (سرسري) يعني متشرد تائه في الأرض”.

يقول الدكتور تشارلز أوس عن الغاية التي كان يرمي إليها السيد: “كانت الغاية التي يرمي إليها جمال الدين والغرض الأول من جميع جهوده التي لا تعرف الكلل، ومن إثارته للنفوس وتهييجه المتواصل للناس- توحيد كلمة الإسلام… إذ كان يعتقد أن الأمم الإسلامية لو نفضت عن نفسها كابوس الاحتلال الأجنبي، وتحررت من تدخّل الدول الأجنبية في شئونها، وصلح حال الإسلام وتوافق مع مقتضيات الحياة المعاصرة- لأصبح المسلمون قادرين على تدبير أمورهم، دون أن يعتمدوا على الأمم الأوروبية أو يصطنعوا وسائلها”.

كانت بغية السيد إذًن هي وحدة كلمة هذه الأمة، ونبذ الفرقة بين شعوبها، ومجانبة كل فعل يؤدي إلى تجزئتها وتشرذمها، وكان لا يرى سبيلا إلى الخلاص من سطوة الأجنبي إلا أن تتوحد الجهود المخلصة لأبناء الأمة؛ لتصبح قادرة على مواجهة هذا التحدي. لذلك كان السيد لا يرى في دعاوى الطائفية والتمذهب إلا أدوات للدخيل يسعى بها لتعزيز وجوده في ديار الإسلام، ويذكر تلميذه الإمام محمد عبده أنه “كان يتسامى عن كل معاني التعصب لفرقة من الفرق الإسلامية أو مذهب من المذاهب الفقهية وكان ينفر كل النفور من كل معاني التعصب الضيق الممقوت الذي يلقي بين الناس الإحن والعداوات”.

محمد عبده
محمد عبده

ولا عجب أنه برغم مضي السنين، إلا أنَّ صوت السيد لم يخفت، ولا غابت كلماته، ولا انمحت آثاره من تلك النفوس المتوثبة للحرية الطامحة إلى الاستقلال، المصرة دوما على مبدأ أنه لا نجاة للأمة ولا نهضة لها بحق إلا إذا نفضت يدها من هذا الغرب المتسلط الذي أصابها بأرزائه ورماها بويلاته، وقد انكشفت حقيقته الإجرامية ناصعة لكل ذي عين، وإلا إذا توضأت الأمة بذلك الوهج الشرقي، واستقبلت قبلتها الأولى عازمة على الاستجابة لتلك الدعوة المباركة التي أطلقها السيد، ومازال صداها لا يعرف البدد إلى يومنا هذا.

وكما يروي محمود أبو رية فإن السيد كان يرى أن الإسلام – في جميع المسائل الجوهرية- دين عام شامل للعالم أجمع، قادر تمام القدرة بما فيه من قوة روحية على ملاءمة الظروف المتغيرة في كل جيل، ويضيف أبو رية أنه ” كان من خاصة مزاج السيد أن الوسائل التي تخيّرها لتحقيق غاياته- كانت وسائل الثورة السياسية، فقد خُيِّل إليه أنها أسرع الطرق وأفضلها، في تحرير الشعوب الإسلامية، وتغذيتها بالحرية الضرورية؛ لتنظيم شئونها، أما وسائل الإصلاح التدريجي والتعليم، فكان يرى أنها بطيئة جدا، وغير محققة للعاقبة”.

وهنا لا بد أن نشير إلى اتهام وُجِّهَ للأفغاني من ضمن ما كيل له من اتهامات، وهو أنَّه وبصفته أول من سعى لإنشاء تنظيم سياسي سري، يكون بذلك فكره مرجعا هاما لمؤسس أكبر جماعة مارست الإرهاب عبر عقود وما تزال، والحقيقة أن فكر السيد الذي اعتمد الثورة السياسية منهجا وأسلوبا، بل وازدرى طرق الإصلاح المتدرج؛ يقينا بعدم جدواها، لا يمكن أن يكون أحد الأسس أو المنطلقات الفكرية لجماعة طالما أكدت أن منهجها إصلاحي، ولا علاقة له بالثورة!

وهذا بخلاف ما كان يرى تلميذه الإمام محمد عبده من أن اليقظة الدينية والسياسية والاجتماعية؛ إنما تتحقق بالعلم الصحيح، وقد تكامل رأيا الشيخين في غير تنافر في تمزيق أستار المحافظة المدعاة، والرجعية التي وأدت الإسلام منذ العصور الوسطى.

ومما يجدر ذكره أن السيد هادي خسرو شاهي، قد أنفق من عمره قرابة نصف قرن، ليجمع الآثار الفكرية للسيد من بين مقالات سياسية ومحاضرات وكتابات ودراسات، وقد تمكن من جمع هذه الآثار العظيمة في ستة مجلدات تتضمن كل أعداد “العروة الوثقى” ورسائل في الفلسفة ليس هذا فحسب وإنما أيضا تحتوى على الدراسات التاريخية التي كتبها الأفغاني عن تاريخ إيران كتبت باللغة الفارسية.. إنها ليست مجرد مجموعة أعمال كاملة لرجل عادي.. إنها الآثار الكاملة للسيد جمال الدين الحسيني الأفغاني، الرجل الذي ملأ وهجه الشرق لأعوام عديدة، وما تزال آثاره باقية إلى ما شاء الله.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock