تُهدد الحرب في السودان، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، بالدخول إلى مناطق شرق البلاد؛ وهي المناطق التي لم يصلها لهيب هذه الحرب الناشبة منذ أشهر طويلة، قاربت أربعة عشر شهرًا. والمُلاحظ، هو التصريح الذي أدلى به مالك عقار، الرجل الثاني في السلطة الموالية للجيش في السودان، منذ فبراير الماضي؛ إذ قال إنه ناقش مع المسئولين الإريتريين “سُبل تجنب امتداد الحرب إلى شرق السودان”.
مثل هكذا تصريح، يؤشر إلى الخطر الذي يتهدد ولايات شرق السودان الثلاث، التي ظلت حتى الآن بمنأى عن المعارك، خصوصًا مدينة بورتسودان حيث يوجد الميناء والمطار الوحيدان العاملان في السودان حاليًا، فضلا عن كونها المقر الحالي لقائد الجيش عبد الفتاح البرهان. إلا أن تصريح مالك عقار يؤكد، في الوقت نفسه، على إمكانية إريتريا في الدخول على خط الصراع الدائر في السودان، ومحاولاتها في الاقتراب من إقليم شرق السودان بشكل خاص.
فما أسباب المحاولات الإريترية في الدخول على خط الأزمة السياسية في السودان عمومًا؛ وملف شرق السودان على وجه الخصوص؟
دوافع متعددة تستند إليها إريتريا في محاولتها هذه.. أهمها ما يلي:
من جانب، هناك التأثير الأمني لشرق السودان على الداخل الإريتري؛ حيث مثلت المشاغل الأمنية بندًا رئيسًا في أجندة أسمرة تجاه شرق السودان، المجاور لحدودها الغربية والشمالية. إذ، يُمثل الإقليم بولاياته الثلاث، ولاسيما كسلا والبحر الأحمر، عمقًا استراتيجيًا لإريتريا، بسبب الحدود الطويلة الممتدة والتداخل الإثني بين العديد من القبائل على طرفيها.
ولذا، يكون من الطبيعي أن يُصبح استقرار الولايات الشرقية مطلبًا لإريتريا قبل أن يكون مطلبًا سودانيًا؛ ومن ثم، يكون بناء شبكة علاقات إريترية مع قوى مجتمعية وسياسية وقبلية، في إقليم الشرق، يضمن لها حضورًا ونفوذا دائمين في الإقليم.
من جانب آخر، محاولة استيعاب بعض الجماعات الإثنية في السودان؛ إذ، يُتيح صراع السودان الفرصة لإريتريا في الدخول على خط ملف الشرق، خاصة أنها تعتمد في ذلك على القرب الجغرافي، والتداخلات القبلية والإثنية بين إريتريا وشرق السودان. ومن الواضح، أن أسمرة تعد لاعبًا رئيسًا في تطورات المشهد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي أيضا، في إقليم الشرق؛ بفعل الحدود البرية المشتركة بينهما، وعلاقاتها مع الكثير من المكونات الأهلية الفاعلة في الإقليم.
وفضلا عن أن نظام أسمرة يعول على إدراك السلطة الحاكمة في السودان، أنها تمتلك مفاتيح تهدئة الأوضاع؛ فإن التدخل في ملف شرق السودان، لا يمثل فقط أهمية بالنسبة لإريتريا باعتباره واجهة شمالية غربية لأمنها القومي؛ ولكن أيضا يتيح لها تعزيز مكاسبها خصوصا مع اعتماد اقتصاد إريتريا على السلع السودانية، الصناعية والزراعية، المتداولة بين القبائل والإثنيات المتداخلة على الحدود بين البلدين.
أضف إلى ذلك، أن السبب الرئيس للتدخل الإريتري، خاصة في شرق السودان، هو الضغط على الخرطوم، أو بمعنى أوضح الجيش السوداني، الذي يُقيم علاقات مع المعارضة الإريترية. إذ، يبدو أن إريتريا تُريد ممارسة ضغط، ولكنها لا تُريد إسقاط الجيش، لأن حلفاءها التقليديين في شرق السودان يدعمونه؛ كما أنها لا تميل إلى دعم محمد حمدان دقلو، قائد قوات الدعم السريع، المتحالف مع أبو ظبي، لأن ذلك سوف يُعزز نفوذ الإمارات في شرق السودان، وبالتالي في القرن الأفريقي، وهو ما لا توافق عليه أسمرة.
من جانب ثالث، إمكانية اكتساب ساحة للنفوذ في القرن الأفريقي؛ فمن خلال محاولة التدخل في الشئون الداخلية للسودان، كما حدث من قبل في الصومال، في العقد الأول من القرن الحالي، تستهدف إريتريا تقوية مكانتها ولعب دور إيجابي يدعم دورها الإقليمي، بشكل يضع أسمرة في مقدمة دول القرن الأفريقي الفاعلة، بعد زعزعة الدور الإثيوبي نتيجة الحرب في إقليم تيغراي.
وبدلا من العزلة السابقة، وعبر الدخول على خط التوتر في شرق السودان، يبدو بوضوح الهدف الإريتري في تفعيل دورها داخل المنظمات الإقليمية، التي فَعَّلت إريتريا عضويتها فيها؛ وأهم هذه المنظمات الهيئة الحكومية للتنمية “إيغاد”، والاتحاد الأفريقي.
من جانب أخير، محاولة تجاوز العقوبات والخروج من العزلة الدولية؛ إذ تواجه أسمرة حاليا، تحديات على طريق استعادة اندماجها في العلاقات الدولية والإقليمية. ومن خلال الدخول على خط الصراع السوداني، وإبعاد الصراع عن إقليم شرق السودان، المُنفتح على منطقة القرن الأفريقي، يمكن لإريتريا تقديم صورة ناصعة باعتبارها تساهم في توفير الأمن والاستقرار في المنطقة، بعد أن تعرّض النظام الحاكم فيها إلى إدانات واضحة، عقب المشاركة مع الحكومة الإثيوبية في حرب تيغراي؛ ما تسبب في العقوبات التي فرضتها واشنطن على إريتريا، قبل حوالي عامين، فضلا عن عقوبات سابقة لمجلس الأمن عليها لاتهامها بدعم “حركة الشباب” الصومالية.
في هذا السياق، يبدو أن الدخول الإريتري على خط الصراع السوداني، ربما تستغرق وقتًا؛ وربما تواجه محاولات أسمرة بعضا من الصعوبات بخصوص تدخلها في ملف شرق السودان. لكن، رغم ذلك، فإن هناك مجموعة من القضايا “الشائكة”، التي تدفع إلى التقارب الإريتري مع الجيش السوداني تحديدا، في إطار محاولة تفعيل “التفاهمات” بين الطرفين حولها.
فهناك قضايا تخص الداخل الإريتري متعلقة بالاقتصاد والأمن، وتتصل بطبيعة المشكلات القائمة في منطقة “الفشقة” الحدودية المتنازع عليها بين السودان وإثيوبيا؛ فضلا عن مشكلة إقليم تيغراي، وما تمثله جبهة تحرير تيغراي من تهديد لنظام أسمرة. أضف إلى ذلك، مشكلة التداخل القبلي والإثني، بين إريتريا وإقليم شرق السودان، وما يمثله التوتر في الإقليم من تداعيات على الداخل الإريتري.
هذه القضايا مجتمعة، وفي مقدمتها سوء العلاقات بين أسمرة وأديس أبابا، أدت إلى تحرك إريتريا تجاه السودان وفق مسارين: الأول، تفاهمات بشأن العلاقات بين البلدين؛ والآخر، نقاشات بخصوص إثيوبيا وعلاقتها بالسودان. وهذه القضايا، في الوقت الذي تجعل فيه إريتريا تهتم بالتقارب مع السلطة الحاكمة في السودان؛ إلا أنها، في الوقت نفسه، تدفعها إلى التدخل في تفاعلات شرق السودان، كمحاولة من جانبها في الخروج من عزلتها، خلال سنوات مضت، وتفعيل دورها كـ”فاعل” في منطقة القرن الأفريقي.