رؤى

الرسم “القرءاني”.. ودلالة سؤال “ٱلۡخَلۡقَ”

بالرغم من أن فعل “ٱلۡخَلۡقَ” قد ورد في التنزيل الحكيم منسوبًا إلى الله سبحانه وإلى غيره؛ فقد جاء هذا الانتساب الأخير، ضمن الإطار العام الذي تفرد به الخالق الأعظم سبحانه وتعالى، الذي ورد عبر الاصطلاح القرءاني “خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ”؛ الذي ورد في “أربعة” مواضع، ضمن المواضع “الثمانية” التي ورد فيها اسم الله تبارك وتعالى “ٱلۡخَلۡقْ”.

وقد وصلنا في حديثنا السابق، حول “دلالة اسم الله ٱلۡخَلۡقْ”، إلى أن هذا الاسم قد ورد في المواضع “الثمانية”، التي ورد فيها في آيات التنزيل الحكيم، دون تثبيت حرف الألف؛ بما يؤشر دلاليًا على الجانب “الوظيفي” للمصطلح.

ولعل ذلك يعود، إلى أن فعل “ٱلۡخَلۡقَ” في التنزيل الحكيم، في الوقت الذي يأتي فيه منسوبًا إلى الله تبارك وتعالى؛ فإنه يأتي أيضا منسوبًا كذلك لغير الله. كما يعود كذلك إلى الدلالة “الوظيفية” ـ دون “المادية” ـ في فعل “ٱلۡخَلۡقَ” عندما يرد منسوبًا إلى المولى عزَّ وجل. أي إن حذف حرف الألف، رسمًا قرءانيًا، من اسم الله تبارك وتعالى، يؤشر إلى فعل “ٱلۡخَلۡق” وظيفيًا، وليس قيام الخالق الأعظم بهذا الفعل ماديًا.

ففي قوله عزّ وجل: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡۚ هَلۡ مِنۡ خَٰلِقٍ غَيۡرُ ٱللَّهِ يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ” [فاطر: 3]؛ تتبدى بوضوح الدلالات الوظيفية في السياق القرءاني للآية الكريمة؛ وهي الدلالات التي تبدو عبر التساؤل الإلهي: “هَلۡ مِنۡ خَٰلِقٍ غَيۡرُ ٱللَّهِ يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۚ”.

ولكن، كيف يأتي فعل “ٱلۡخَلۡقَ” وظيفيًا، رغم أننا نشاهد كل الأشياء المخلوقة “مادية”؟

نؤكد، بداية، على أن “ٱلۡخَلۡقَ”، لسانيًا، هو الإيجاد؛ أو بالأحرى “إبداع الشيء على مثال لم يسبق إليه”؛ وذلك كما في قوله سبحانه: “ذَٰلِكَ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلۡعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ٭ ٱلَّذِيٓ أَحۡسَنَ كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقَهُۥۖ وَبَدَأَ خَلۡقَ ٱلۡإِنسَٰنِ مِن طِينٖ” [السجدة: 6-7]؛ وكما في قوله تعالى: “هَٰذَا خَلۡقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦۚ بَلِ ٱلظَّٰلِمُونَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ” [لقمان: 11].

ولنا أن نُلاحظ أن التنزيل الحكيم قد استعمل “ٱلۡخَلۡقَ”، للإشارة إلى “المعنى المصدري”، كما في قوله عزَّ وجل: “مَّآ أَشۡهَدتُّهُمۡ خَلۡقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَا خَلۡقَ أَنفُسِهِمۡ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلۡمُضِلِّينَ عَضُدٗا” [الكهف: 51]. وفي الوقت نفسه، جاء “ٱلۡخَلۡقَ” قرءانيًا للإشارة إلى صورة “المخلوق”، كما في قوله عزَّ من قائل: “إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعۡدِ قَوۡمِ نُوحٖ وَزَادَكُمۡ فِي ٱلۡخَلۡقِ بَصۜۡطَةٗۖ” [الأعراف: 69]. هذا فضلا عن ورود “ٱلۡخَلۡقَ”، في ما يصلح للمعنى المصدري إشارة إلى فعل “ٱلۡخَلۡقَ” نفسه، كما في قوله سبحانه وتعالى: “إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ” [آل عمران: 190].

وهنا، لنا أن نُشير إلى ابتعاد المعنى الذي أوردته “معاجم اللغة” لمفهوم “ٱلۡخَلۡقَ”، عن الدلالة الحقيقية للمفهوم في آيات التنزيل الحكيم. إذ إن “التقدير” الذي تورده تلك المعاجم، لا يتوافق مع معنى “ٱلۡخَلۡقَ” على الحقيقة؛ فـ”التقدير” أي تشخيص خصائص وأبعاد وسمات “المخلوق” أي “التصميم” يكون في ما قبل فعل “ٱلۡخَلۡقَ” نفسه؛ إلا أن القرءان الكريم يورد فعل “ٱلۡخَلۡقَ”، للإشارة إلى الإيجاد الفعلي.

ولعل ذلك ما يتبدى بوضوح، عبر قوله سبحانه: “ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَۖ ثُمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ” [الأنعام: 1]؛ وقوله: “وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ مِنَ ٱلۡمَآءِ بَشَرٗا فَجَعَلَهُۥ نَسَبٗا وَصِهۡرٗاۗ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرٗا” [الفرقان: 54]. وأيضًا، عبر قوله تعالى: “ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٭ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ” [العلق: 1-2]؛ وقوله: “خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۚ تَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ٭ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٖ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٞ مُّبِينٞ ٭ وَٱلۡأَنۡعَٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمۡ فِيهَا دِفۡءٞ وَمَنَٰفِعُ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ” [النحل: 3-5].

عبر هذه الآيات البينات، وغيرها من آيات الذكر الحكيم، يتأكد لدينا بأن “ٱلۡخَلۡقَ” هو الإيجاد على الحقيقة، وليس مجرد التقدير؛ أو تحديدًا: هو “الإيجاد وفق خصائص محددة، نابعة من إرادة إلهية قاضية”.

في هذا الإطار، نأتي إلى محاولة الإجابة على التساؤل، الذي كان ختامًا لحديثنا السابق حول “دلالة اسم الله ٱلۡخَلۡقْ”.. التساؤل الذي مفاده: كيف يأتي فعل “ٱلۡخَلۡقَ” وظيفيًا، رغم أننا نشاهد كل الأشياء المخلوقة “مادية”؟

وقد قلنا فعل “ٱلۡخَلۡقَ” وظيفيًا، لأن اسم الله تبارك وتعالى الذي ورد في صيغة اسم الفاعل “خَٰلِقْ”، قد ورد في المواضع “الثمانية”، التي ورد فيها في آيات التنزيل الحكيم، دون تثبيت حرف الألف؛ بما يؤشر دلاليًا على الجانب “الوظيفي” للمصطلح.

وفي التنزيل الحكيم، يأتي فعل “ٱلۡخَلۡقَ” لسانيًا؛ ليشمل أحد جانبين: إيجاد الشيء من الشيء، أي من مادة سابقة؛ أو إيجاد الشيء من غير سابقة.

في الجانب الأول، أي فعل “ٱلۡخَلۡقَ” عبر إيجاد الشيء من الشيء، أي من مادة سابقة؛ يأتي قوله سبحانه وتعالى: “خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٖ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٞ مُّبِينٞ” [النحل: 4].. وقوله سبحانه: “وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ” [الروم: 21].. وقوله تعالى: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ” [النساء: 1]. ولنا أن نُلاحظ التعبيرات القرءانية: “مِن نُّطۡفَةٖ”، و”مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ”، و”مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ”، في الآيات الكريمات.

أما بالنسبة إلى الجانب الآخر، أي فعل “ٱلۡخَلۡقَ” عبر إيجاد الشيء من غير سابقة؛ يأتي قوله سبحانه وتعالى: “إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ” [آل عمران: 190].. وقوله سبحانه: “ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَۖ ثُمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ” [الأنعام: 1].. وفي قوله تعالى: “وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۖ وَيَوۡمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُۚ قَوۡلُهُ ٱلۡحَقُّۚ وَلَهُ ٱلۡمُلۡكُ يَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِۚ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ” [الأنعام: 73].

وهنا، لنا أن نُلاحظ أن الآيات التي تتحدث عن “خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ”، إنما تُشير إلى إبداعها من حيث إنها لم تكن موجودة؛ بيد أن هذا لا يعني أن “ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ” مخلوقة من عدم، بل هي مسبوقة بعدم.. والفارق كبير بين المعنيين.

لنا أن نُلاحظ، أيضا التعبير القرءاني “كُن فَيَكُونُۚ”، الذي يرد في التنزيل الحكيم في “ثمانية” مواضع، والذي يأتي دلالة على “ٱلۡحَقُّۚ” في القول الإلهي “وَيَوۡمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُۚ قَوۡلُهُ ٱلۡحَقُّۚ”.

ولأن فعل الله سبحانه هو عين قوله تعالى؛ لذا، فإن هذا التعبير القرءاني “كُن فَيَكُونُ”، وعلاقته بمسألة “ٱلۡخَلۡقَ”.. يحتاج إلى حديث خاص.

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock