رؤى

نزع «الرداء الأيديولوجي» طريق المقاومة لجني ثمار النصر

بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري

نقلًا عن موقع عُمان

حسين عبد الغنيتواجه فصائل الكفاح المسلح الفلسطينية امتحانها الأصعب منذ ٧ أكتوبر، بل الأصعب منذ حلولها مكان فتح في قيادة المشهد الشعبي الفلسطيني بعد تخلي الأخيرة عن خيار الكفاح المسلح بتوقيعها على اتفاق أوسلو عموما ووفاة عرفات كرمز جامع خصوصا.

وهو أصعب لأن عبوره يستلزم جهادا شاقا داخليا مع النفس لتغيير الفكر والخطاب السياسيين التاريخيين للمقاومة. و«جهاد النفس» كما هو مستقر في تراثنا الحضاري هو أشق حتى من جهاد الحرب.

الامتحان الذي تواجهه المقاومة هو في حقيقة الأمر حقل ألغام سياسي إعلامي قام بزرعه تحالف أمريكي وإسرائيلي وعربي – فلسطيني «حلف النقب» لكي ينفجر في وجه المقاومة بحيث إذا أخطأت في التعامل مع هذه المرحلة ومرحلة ما بعد الحرب تنزلق قدمها في حقل الألغام ما يؤدي ـ لا قدر الله ـ لنسفها وشطبها من المستقبل السياسي الفلسطيني والإقليمي.

لكي يحقق حلف النقب أهدافه يقوم الآن بشن حملة مزدوجة على المقاومة من شقي رحى الأول سياسي والثاني إعلامي يقوم بتشويه المقاومة وزعمائها لكي يحشرها في زاوية الاستسلام والتنازل.

لقد كتبت وغيري كثيرا عن الضغوط السياسية ولهذا سأركز على الحملة الإعلامية المسمومة الحالية.

تتهم حماس من قبل إعلام حلف النقب بأنها حركة متصلبة ومتشددة في مواقفها تعرقل الوصول لاتفاق مؤقت – مدعوم بقرار من مجلس الأمن- لوقف إطلاق النار كان ليوقف قتل أهلهم من مدنيي غزة ويسمح بتدفق المساعدات.

مخالفة التشويه الإعلامي للوقائع فاضحة. باعتراف إسرائيليين وأوروبيين فإن حماس هي التي قبلت قرار مجلس الأمن ومقترح بايدن وهي التي قدمت ردا يوافق ولكن يستدرك كل الفخاخ في النص الإسرائيلي المكتوب.. بينما كانت إسرائيل الطرف الذي امتنع علنا عن قبول المقترح ورفض قرار مجلس الأمن.

أما زعماء المقاومة خاصة يحيى السنوار فقد ظهروا في سردية الحملة المسمومة كالتالي: قادة متعصبون دينيا غلاظ القلوب لا يبالون بدماء شعبهم يحبون الموت ويكرهون الحياة.

مخالفة الأوصاف للحقائق هنا لا تقل فجاجة إذ وافق معظم المحللين على أنه إذا كان هناك من دافع يفسر مرونة المقاومة «ولكن ليس استسلامها» خاصة مرونة قادة غزة في قبول وقف إطلاق النار في ٦ مايو الماضي ـ الذي رفضته إسرائيل – هو رغبة المقاومة في وقف معاناة شعبها.

تحاول الحملة المزعومة استغلال أساس واحد فقط هو الجذر الأيديولوجي لحركة حماس في تيار الإسلام السياسي.

المذكرة التفسيرية هنا أنه مادام هؤلاء ينتمون لحركات ذات أيديولوجية دينية متشددة فإن صفات التشدد والتصلب وعدم المبالاة بإراقة الدماء ومعاداة السامية المزعومة لدى المقاومة تفتح نافذة لغسيل مخ جديد للوعي الشعبي العالمي المتعاطف مع القضية الفلسطينية والمعادي للوحشية الإسرائيلية.

هذا التعاطف نقل المقاومة المصنفة زورا وبهتانا لدى أمريكا والاتحاد الأوروبي كمنظمات إرهابية إلى حركة تحرر وطني وعربي معترف بها من حركات التحرر والانعتاق العالمية. بعد طوفان الأقصى سعت حركات اجتماعية وطلابية عابرة للحدود للارتباط بها والدفاع عنها. تعاطف هذه الحركات كانت استفتاء شعبيا أسقط وداس بالأقدام على تصنيف أمريكا والاتحاد الأوروبي الظالم للمقاومة ونقلها لرمز إنساني ضد الاحتلال الاستيطاني ونظام التفرقة العنصري الإسرائيلي. لم تتظاهر هذه الحركات التي قادت مظاهرات واحتجاجات سلمية شبه يومية في الشوارع والجامعات من أجل حماس.

لم تتبن خطابا أيديولوجيا للإسلام السياسي وعندما رفعت أعلاما رفعت أعلام فلسطين وليست أعلام حماس. وهذا ما تبدو المقاومة مدعوة لاستيعابه بوضوح عبر الاندماج أكثر فأكثر في خطاب التحرر الوطني ومظلة الحركة العالمية الإنسانية المعادية للظلم والاحتلال وسياسات الأبارتهايد. لن يتم ذلك إلا بالابتعاد عن الخطاب الأيديولوجي القديم الذي كان يصور الصراع العربي الصهيوني كصراع ديني فهذا خطاب يعطي إعادة استخدامه سلاحا للحلف المعادي في حملته الحالية لكسر التحالف العالمي غير الأيديولوجي الذي يسند ظهر فلسطين وغزة في حرب الإبادة الجماعية.

لن يتم ذلك إلا عبر تصحيح القراءة الخاطئة التي طرحها بعض مثقفي حماس وبعض منظري الإخوان المسلمين من أن طوفان الأقصى هو دليل على انتصار المشروع الإسلامي لفلسطين على مشروع التحرر الوطني الفلسطيني الذي يضم كل الفصائل والحركات ويضم كل مسلمي ومسيحيي فلسطين. الدليل على ذلك هو أن الدعم الشعبي الذي تتلقاه المقاومة من أمتها يشمل كل التيارات السياسية العربية المؤمنة بالمقاومة ولا يمثل التيار الإسلامي إلا قسما محدودا منها. فالتيارات الوطنية والقومية واليسارية والليبرالية والسنة والشيعة والمسلمون والمسيحيون كلهم يقفون خلف المقاومة. لفهم هذا بوضوح -لايسمح الوقت ولا الموقف بمجاملة فيه- أن كثيرا من هذه التيارات تعتبر تيار الإسلام السياسي على الأقل في بلده خصما سياسيا خاصة بعد تجارب الحكم المريرة لهذا التيار والتهديد الذي مثله لوجود ووحدة أراضي الدولة الوطنية كما هو الحال في سوريا والعراق وليبيا والسودان. لكن الجماهير وتياراتها السياسية لم تأبه بهذا الخلاف ولم تنظر للمقاومة و٧ أكتوبر من ثقب الإخوان الضيق بل نظرت لها فقط كحركة مقاومة تستعيد مشروع حركة التحرر الوطني الفلسطيني والعربي الذين اختطفتهم بل خنقتهم اتفاقات «كامب ديفيد» و«أوسلو» و«وادي عربة» و«السلام الإبراهيمي».

الذين يرون أن طوفان الأقصى انتصار للمشروع الإسلامي لفلسطين والمنطقة يريدون تدمير أهم إنجاز للأمة وهو سقوط الخلافات السياسية والمذهبية والطائفية التي أشعلها كيسنجر وسار عليها خلفاؤه لمنع حدوث نصر عربي كحرب أكتوبر٧٣ مجددا. بعد ٧ أكتوبر توحد الجميع خلف فكرة وسلاح المقاومة ومن يريدون أن يخصوا تيارهم يقومون بإشعال هذه الانقسامات من جديد. قد يجعلون أقساما مهمة في الأمة ترجع للوراء وتعيد النظر إلى حزب الله وأنصار الله كحركات مذهبية بعد أن أصبحوا أبطالا للمقاومة في عيون العرب من جديد.

الأخطر من ذلك أن ادعاءه أن الطوفان نصر لتيار الإسلام السياسي إقليميا سيزيد من حلقة الخنق العربية على المقاومة ومن اندفاع النظم العربية الرافضة لسيطرة هذا التيار إلى مزيد من التحالف مع الولايات المتحدة في مشروعها الرامي لشطب المقاومة من المستقبل واستبدالها بسلطة أوسلو المتعاونة.

من يتحدثون عن مشروع إسلامي يخرجون مسيحيي فلسطين والعالم ويهود العالم المعادين للصهيونية. يخرجون من معسكر مناصرة فلسطين حركات حقوق الإنسان وحياة السود مهمة والجبهات التي تقاوم خطاب المسيحية الصهيونية.

كلما نأت المقاومة عن الرداء الأيديولوجي القديم كلما تفادت الاستقطاب والتخندق وتمكنت من إفشال المخططات الرامية لفك التحامها الحميم الراهن مع التيارات الشعبية العربية المدنية التي تؤمن بفلسطين والمقاومة وليس بفصيل معين.

والأهم من ذلك هو أن هذه الدعوة ليست اختراعا أو مطلبا غائبا عن قيادة حماس فكل المطلوب هو المضي قدما بخطوات أكبر في الطريق الذي بدأته بتغيير ميثاقها في عام ٢٠١٧ والذي عدلت فيه وصفها القديم بأنها جناح من أجنحة الإخوان إلى أنها حركة تحرر وطني تريد تحرير وقيام دولة فلسطين بدلا من إقامة دولة أذان – إسلامية كما في الميثاق القديم!!

كل ما عليها أن تتغلب على مقاومة يبديها حاليا أصحاب التوجه الضيق الذين لا يكفون عن الحديث عن مشروع إسلامي لفلسطين.

حديث تقسيمي يسهل مهمة الصهيونية في إعادة اتهام حماس بالإرهاب ومعاداة السامية، ويسهل حملة الغرب الإعلامية المسمومة الراهنة في حصر حماس وقادتها في «جيتو» أيديولوجي ضيق. يسهل للأعداء نزع الانتصار الأهم لنصر ٧ أكتوبر ويعيد المقاومة إلى المربع القديم المحلي الذي غادرته بتضحيتها وتضحية شعبها بكفاءة إلى مربع الشرعية الدولية القانونية والشعبية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock