رؤى

عمير بن سعد.. كان “نَسِيج وَحْدِهِ”!

طفل من الأنصار في العاشرة من عُمره.. لا يغادر مجلس الحبيب محمد صلوات ربي وسلامه عليه.. فيصوغ الإيمان قلبه ويملك عليه حب الله ورسوله عقله ووجدانه.. فإذا بالصبي  وقد فاق الكبار وعيا وحكمة.. مات أبوه وهو في سني عمره الأولى؛ فتزوجت أمه من الجلاس بن سويد الأوسي وكان رجلا ذا مال ومكانة في قومه، إلا إنه كان على النفاق، كان عمير يحب الجلاس حبا شديدا لحسن معاملته له وإشفاقه عليه ورحمته به.. لكن عميرا لم يكن يعلم بأمر نفاق الرجل.. وعندما دعا الرسول صلوات ربي وسلامه عليه، المسلمين للخروج إلى تبوك، كان الجلاس من الخوالف. ولم يكتف ابن سويد بذلك بل زاد في نفاقه بقوله: “لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير” وسمعه عمير ووعى خطورة ما قال زوج أمه، كما وعى خطورة كتمان الأمر على رسول الله، وأن في ذلك خيانة ما أعظمها؛ فأبلغ الجلاس بعزمه على إبلاغ الرسول بما سمع؛ فحاول إثناءه دون جدوى.. وأصر الصبي على الذهاب إلى النبي في مسجده وإبلاغه بما سمع.

بعد إنصات الحبيب محمد لعمير.. “بعث النبي إلى الجلاس وطلب منه الحضور، فأنكر الجلاس، وأقسم بأنه لم يقل ذلك الكلام، وقد لام بعض الحضور عميرا، وقالوا له: هل هذا جزاء إحسانه إليك، فبكى الصغير، ودعا ربه قائلا: “اللهم أنزل على نبيك تبيان ما تكلمت به”. فأنزل الله بيان صدق عمير من فوق سبع سنوات، قرآنا يتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. قال عز من قائل: “يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ” (74) التوبة.

وكانت هذه الآية سببا في توبة الجلاس توبة نصوحا، وظل عمير على مودته والرفق به حتى لحق بالرفيق الأعلى.

لقد كان لعمير من حميد الخصال وكريم الأخلاق وجميل السمات ما لم يكن لغيره حتى أطلق عليه “نسيج وحده”.

في عهد عمر، شهد عمير فتوح الشام، وكان من قادة الجيوش.. بعثه عمر ذات مرة على جيش من قبل الشام.. فما لبث عمير أن عاد ودخل على عمر وقال له: “يا أمير المؤمنين، إن بيننا وبين عدونا مدينة يقال لها عرب السوس، تطلع عدونا على عوراتنا، ويفعلون ويفعلون”. فقال عمر: “خيّرهم بين أن ينتقلوا من مدينتهم، ونعطيهم مكان كل شاة شاتين; ومكان كل بقرة بقرتين; ومكان كل شيء شيئين; فإن فعلوا  فأعطهم ذلك، وإن أبوا فانبذ إليهم على سواء; ثم أجّلهم سنة”.

فقال عمير: “اكتب لي يا أمير المؤمنين عهدك بذلك”. فكتب له عمر عهدا.. فعرض عمير عليهم، فأبوا؛ فأجَّلهم سنة، ثم نابذهم (حاربهم) فقيل لعمر: “إن عميرا قد خرّب عرب السوس، وفعل.. فتغيظ عليه. فلما قَدِمَ عمير؛ علاه  عمر بالدُّرَّة، وقال له: “خرّبت عرب السوس! وعمير ساكت.. فلما دخل عمر بيته، استأذن عليه فدخل، وأقرأه عهده. فقال عمر: “غفر الله لك”.

وهذا خلق رفيع لم تعرفه العرب إلا في عمير.. فرغم أنه كان قائد جيش ومعه عهد، إلا أنه لم يستنكف أن يضربه عمر -وهو خليفة المسلمين- بالدّرّة، كما لم يود تبيان خطأ عمر أمام الناس؛ لما في ذلك من إضرار بمكانة أمير المؤمنين.. لكن عميرا ينتظر حتى يدخل عمر إلى بيته، ويستأذن في الدخول عليه، ليطلعه على العهد الذي كان عمر قد نسي أمره تماما.

وعندما ولّاه عمر مدينة حمص خطب في الناس قائلا: “أيها الناس.. إن الإسلام حصن منيع، وباب وثيق، وحصنُ الإسلام العدلُ، وبابُه الحقُّ، فإذا دُكَّ الحصنُ، وحُطِّم البابُ استُبِيحَ حِمَى هذا الدين، وإنّ الإسلام ما يزال منيعا ما اشتد السلطانُ، وليست شدة السلطان ضربا بالسوط، ولا قتلا بالسيف، ولكن قضاءً بالعدل، وأخذا بالحق”.

مكث عمير عاما كاملا يصلح أحوال حمص وأهلها.. لا يراسل عمر ولا يأتيه منه خبر.. فكتب عمر  له رسالة حَوَتْ عبارة واحدة فقط “أقبل بما جبيت من الفيء” .

فأخذ عمير جرابه وقصعته، وعلق أدواته، وأخذ عنزته وأقبل راجلا. فدخل المدينة، وقد شحب واغبر وطال شعره. فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال: ما شأنك؟ قال: ألست صحيح البدن، معي الدنيا! فظن عمر أنه جاء بمال، فقال: جئت تمشي؟ قال: نعم. قال: أما كان أحد يتبرع لك بدابة؟ قال: ما فعلوا، ولا سألتهم. قال: بئس المسلمون!  قال: يا عمر، إن الله قد نهاك عن الغيبة. فقال: ما صنعت؟ قال: الذي جبيته وضعته مواضعه، ولو نالك منه شيء لأتيتك به. قال: جددوا لعمير عهدا. قال: لا عملت لك ولا لأحد، قلت لنصراني: أخزاك الله.

وذهب إلى منزله على أميال من المدينة. فقال عمر: أراه خائنا; فبعث رجلا بمائة دينار، وقال: انزل بعمير كأنك ضيف، فإن رأيت أثر شيء، فأقبل; وإن رأيت حالا شديدة; فادفع إليه هذه المائة. فانطلق، فرآه يفلي قميصه فسلم؛ فقال له عمير: انزل فنزل. فساءله:  كيف أمير المؤمنين؟ قال الرجل: ضرب ابنا له على فاحشة فمات. فنزل به ثلاثا، ليس إلا قرص شعير يخصونه به ويطوون، ثم قال: إنك قد أجعتنا. فأخرج الدنانير، فدفعها إليه  فصاح، وقال: لا حاجة لي بها. وردها عليه. قالت المرأة (زوجة عمير): إن احتجت إليها، وإلا ضعها مواضعها فقال: ما لي شيء أجعلها فيه. فشقت المرأة من درعها، فأعطته خرقة، فجعلها فيها; ثم خرج يقسمها بين أبناء الشهداء.

وأتى الرجل عمر; فقال: ما فعل بالذهب؟ قال: لا أدري. فكتب إليه عمر يطلبه. فجاء، فقال: ما صنعت الدنانير؟ قال: وما سؤالك؟ قدمتها لنفسي. فأمر له بطعام وثوبين. فقال: لا حاجة لي في الطعام; وأما الثوبان، فإن أم فلان -يقصد زوجته- عارية. فأخذهما، ورجع.. فلم يلبث أن مات.

إن خوف عمير من الإمارة وما تجره على الإنسان من ذنوب، جعله يعتذر لعمر عن الاستمرار في ولاية حمص، والسبب الذي بينه عمير أن قال لنصراني أخزاك الله.. وهذا في نظر عمر قول لا يليق بالوالي الذي يجب أن يحترم كل أفراد رعيته وإن كانوا على غير ملة الإسلام.. ثم إنه لا يرغب في متاع الدنيا فيوزع المال على أبناء الشهداء ولا يبقي لنفسه شيئا حتى يلقى الله وهو عهد نبيه لم يبدل ولم تدخل الدنيا قلبه كغيره. رضي الله عن عمير بن سعد الذي كان نسيج وحده صدقا وزهدا وجبا لله ورسوله.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock