رؤى

الأزمة الليبية.. بين رؤية باتيلي ومبادرة خوري

في محاولة لحلحلة الأزمة التي تُعاني منها ليبيا، وتجاوز مرحلة الانقسام بين المكونات الأساسية للمشهد السياسي، تتجه رئيسة البعثة الأممية بالوكالة ستيفاني خوري، إلى إطلاق مبادرة جديدة؛ وذلك في محاولة لكسر الجمود الذي يُخيم على العملية السياسية في البلاد.

ولأن هذه ليست المبادرة الأولى من نوعها، فقد سبقها العديد من المبادرات الخاصة بإمكانية الحوار السياسي، بين الأطراف المتنازعة في ليبيا.. لذا يكون التساؤل: ما الاختلافات بين مبادرة خوري ورؤية عبد الله باتيلي، المبعوث الأممي الذي قدم استقالته، لتأتي خوري وتترأس البعثة الأممية بالوكالة بديلا عنه.

والواقع، يمكن تناول الاختلافات بين مبادرة ستيفاني خوري الجديدة، ومبادرة عبد الله باتيلي قبل تقديم استقالته، من عدة زوايا تتعلق بالتوقيت، الأهداف، الأطراف المعنية، وطريقة التنفيذ؛ وهو ما يمكن أن يوضح كيف تختلف كل مبادرة في محاولتها لحل الأزمة الليبية.

لعل أهم هذه الاختلافات، هي التالية:

1- التوقيت والسياق السياسي؛ حيث تأتي مبادرة ستيفاني خوري في وقت تشهد فيه ليبيا حالة من الجمود السياسي العميق، وتزايد الضغوط الدولية لحل النزاع، بينما جاءت مبادرة عبد الله باتيلي في سياق محاولات الأمم المتحدة السابقة لإيجاد تسوية سياسية، ولكن مع وجود فرص محدودة للتقدم.

أثناء فترة باتيلي، كانت ليبيا تمر بمرحلة حساسة بعد فشل الانتخابات التي كان مقررا إجراؤها، في ديسمبر 2021، وكانت هناك ضغوط دولية لإجراء الانتخابات بسرعة، بينما تتمحور مبادرة خوري حول بناء حوار طويل الأمد، يمكن أن يُمهد الطريق للانتخابات، لكن ضمن شروط وأجواء أكثر استقرارا.

2- الأهداف النهائية لكل مبادرة؛ فقد كان الهدف الرئيس لمبادرة عبد الله باتيلي هو الوصول إلى إجراء انتخابات سريعة لضمان انتقال سياسي سريع، حيث كانت الأمم المتحدة تعوّل بشكل كبير على نجاح الانتخابات مدخلا لحل النزاع. ومع ذلك، فشلت جهوده بسبب عدم اتفاق الأطراف الليبية على الإطار القانوني والدستوري للانتخابات.

على الجانب الآخر، تركز مبادرة خوري بشكل أكبر على معالجة القضايا العميقة التي تعوق الاتفاق، مثل المصالحة الوطنية، والتوصل إلى تفاهمات أوسع حول القضايا المتعلقة بتقاسم السلطة والموارد، ما يشير إلى أنها تأخذ نهجا أكثر شمولا وأطول أمدا، مقارنة بتركيز باتيلي على الحل السريع عبر الانتخابات.

3- نطاق الأطراف المشاركة: إذ، كانت مبادرة باتيلي تعتمد إلى حد كبير على إشراك الأطراف السياسية الرئيسة المعترف بها دوليا، وكان هناك تركيز على الحوار بين البرلمان الليبي ومجلس الدولة، وهو ما أثار انتقادات من بعض الفصائل التي رأت أنها غير ممثلة.

بالمقابل، تأتي مبادرة خوري بنهج أكثر انفتاحا على مختلف الفصائل الليبية، بما في ذلك المجموعات المسلحة والمجتمع المدني، ما يجعلها أكثر شمولية؛ حيث تهدف خوري إلى التوصل إلى تسوية أوسع تشمل مختلف القوى السياسية والاجتماعية، بما في ذلك الفئات المهمشة والتي لم تكن جزءا أساسيا في الحوارات السابقة.

إضافة إلى الاختلافات السابقة، بين رؤية باتيلي ومبادرة خوري؛ هناك بعض الإشكاليات التي توضح الفارق بينهما في التعامل مع الأزمة وأسلوب حلها.. أهمها ما يلي:

1- الأسلوب في التفاوض: كان باتيلي يعتمد في استراتيجيته على محاولة فرض أجندة دولية واضحة، لإجراء الانتخابات وإنهاء المرحلة الانتقالية. وقد تعرّض أسلوبه لانتقادات بأنه قد يكون استباقيا أكثر من اللازم، حيث ضغط باتجاه إجراء انتخابات؛ حتى في ظل غياب توافق حول الأطر الدستورية والقانونية.

هذا، بينما تستخدم خوري أسلوبا أقل اندفاعا، حيث يبدو أنها تأخذ الوقت الكافي لجمع مختلف الآراء وضمان أن الأطراف المختلفة تلتزم بتقديم تنازلات. من خلال هذا الأسلوب، تأمل خوري في تجنب الأخطاء التي ارتُكبت في الماضي، والتي أدت إلى انهيار المحاولات السابقة.

2- المواضيع الخاصة بالتفاوض: تركزت مبادرة باتيلي بشكل كبير على القضايا الانتخابية والدستورية، حيث كان يهدف إلى وضع إطار قانوني ودستوري يسمح بإجراء الانتخابات. هذه النقاط كانت مثار الخلاف الأساسي بين الأطراف الليبية، ولم يتمكن من حلها بشكل كامل.

أما مبادرة خوري، فتذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث تتناول قضايا أوسع تشمل المصالحة الوطنية، بناء المؤسسات، والتعامل مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه البلاد. من خلال توسيع نطاق الحوار ليشمل هذه القضايا، تسعى خوري إلى تحقيق توافق أشمل وأكثر استدامة.

3- مشكلة المواقف الدولية: كان عبد الله باتيلي يعمل تحت مظلة الأمم المتحدة، ما يعني أنه كان يعمل وفق رؤية محددة ترتكز على الضغوط الدولية. كان هناك ضغط كبير من المجتمع الدولي على باتيلي لتحقيق تقدم سريع، وهو ما جعله في كثير من الأحيان مضطرا للعمل ضمن أجندة زمنية ضيقة.

أما ستيفاني خوري، فبينما تستفيد أيضا من الدعم الدولي، إلا أن مبادرتها تبدو أقل تأثرا بالضغوط الزمنية الدولية، وترتكز على فكرة أن الحل يجب أن يكون ليبيًا بحتا. ربما هذا يسمح لها بالتعامل بشكل أكثر مرونة مع التطورات على الأرض، ومنح الأطراف الليبية الوقت اللازم للتوصل إلى اتفاقيات ذات معنى.

لعل مبادرة باتيلي كانت تعوّل بشكل كبير على إجراء الانتخابات كحل سريع للنزاع، ما يعني أن النتائج المحتملة لمبادرته كانت تعتمد على مدى نجاح هذه الانتخابات، في توفير شرعية سياسية جديدة للبلاد. ومع فشل هذه الانتخابات في أن تجري كما كان مخططا لها، انتهت مبادرته دون تحقيق تقدم ملموس.

في المقابل، تتبنى مبادرة خوري نهجا مختلفا يستند إلى بناء توافق واسع وشامل بين مختلف الأطراف.

فهل تنجح مبادرة ستيفاني خوري في حلحلة الأزمة الليبية؟

واقعيا، تُعد مبادرة ستيفاني خوري الجديدة للحوار السياسي في ليبيا، “خطوة مهمة”، وجادة، نحو محاولة حل النزاع الليبي المستمر منذ سنوات؛ خاصة أن المبادرة تهدف إلى فتح قنوات للحوار بين الأطراف الليبية المتنازعة، وتحقيق الاستقرار الأمني والسياسي الذي يمهد الطريق نحو انتخابات رئاسية وبرلمانية. ورغم التحديات الكبيرة التي تواجه هذه المبادرة، فإنها تمثل بارقة أمل في إعادة بناء الدولة الليبية وتحقيق تطلعات الشعب الليبي في الأمن والاستقرار.

وإجمالا فإن تعثّر مبادرات الحل السياسي في ليبيا ينبع من مزيج من العوامل المحلية والدولية، والتي تعيق أي محاولات للتوصل إلى حل شامل؛ التشرذم السياسي والعسكري، والتدخلات الخارجية، انعدام الثقة، والوضع الاقتصادي المتردي، وضعف المؤسسات، كلها تلعب دورا في جعل الأزمة الليبية مستعصية على الحل. ومن ثم، لتُحقق أي مبادرة سياسية النجاح، يجب معالجة هذه العوامل مجتمعة من خلال حوار شامل يتجاوز المصالح الضيقة ويراعي مصالح جميع الأطراف الليبية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock