بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
عن موقع عمان
في الأسبوع الأخير شعر البعض بالدهشة وقد أغرق منطقتنا طوفان هائل من التحليلات عن تأثيرات انتخاب ترامب على الشرق الأوسط. كان ترامب رئيسًا لأمريكا من قبل، وتركت فترة رئاسته آثارا خطيرة على الصراع العربي/الإسرائيلي، وتركت ندوبا غائرة في الجسد العربي والفلسطيني؛ لهذا من السهل التنبؤ بأن منطقتنا ستكون ساحة رئيسية من ساحات السياسة الخارجية في فترته الثانية وأن ملاحقتها لقراءة نتائجها ستكون روتينًا يوميًا لصناع القرار والمحللين من يناير ٢٠٢٥ حتى يناير ٢٠٢٩.
اقتراحان رئيسيان يشارك بهما هذا المقال في الجدل حول قدرة ترامب على إنهاء الحروب الجارية وتأثيره على القضية الفلسطينية في الأشهر والأعوام المقبلة.
الاقتراح الأول: إن الشرق الأوسط الذي يواجهه ترامب في فترة حكمه الثانية والأخيرة هو شرق أوسط مختلف جدًا ولكن بسببه هو. فهذا الشرق المشتعل بالحروب مرتفعة أو متوسطة الشدة وليس الراكد نسبيا كما كان في فترته الأولى هو من صنع ترامب نفسه مهما أنكر؛ فمصدر مباشر لاندلاع هذه الحرب هو سياساته التي فرض فيها بالقسر حلولا ظالمة أوجدت غضبًا هائلًا انفجر جزئيا في مواجهات متدرجة وصولًا لمعركة سيف القدس حتى انفجر بشكل كامل في طوفان الأقصى.
لمدة تزيد عن نصف قرن مارست كل الإدارات الأمريكية استراتيجية «إدارة» الصراع العربي/الإسرائيلي – من ناحية- لإعطاء إسرائيل الوقت لقضم الأراضي الفلسطينية، ومن ناحية أخرى للحفاظ على ولاء حلفائها العرب من خلال الزعم بأنها تلعب دور الوسيط النزيه في مفاوضات تسعى لحل متوازن للقضية الفلسطينية. وحده ترامب قام بكسر هذه السنة المتوارثة وتحول إلى استراتيجية «حسم» الصراع وفي اتجاه واحد هو شطب القضية الفلسطينية لصالح إسرائيل بالكامل. كل النفاق السياسي للرؤساء السابقين عليه بزعم وجود عملية للتسوية تم إنهاؤها بفظاظة وتجبر. تبدى الانحياز الأمريكي المطلق لإسرائيل مع ترامب عاريا من قفازه المخملي فكان أول من تجرأ على الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة واشنطن إليها. كان ترامب أول من يعلن أن الاستيطان الاحتلالي للضفة شرعي وأن حل الدولتين ليس ضروريا. وكانت ما سماها ترامب [صفقة القرن] هي الأخطر إذ دمرت مبدأ الأرض مقابل السلام وتماهت مع نتنياهو في شعار السلام مقابل السلام وتمكن ترامب من جلب ٤ دول عربية للتطبيع مع إسرائيل فيما يعرف بالسلام الإبراهيمي لكن الجائزة الكبرى لصفقة التطبيع وهي السعودية لم تلحق بالاتفاقات الإبراهيمية حتى رحيل ترامب عن البيت الأبيض. لكن مشروعه للتطبيع بين إسرائيل والسعودية تلقفه خلفه بايدن وتمكن مع الدولة العميقة في واشنطن من إعادة صياغته بطريقة أكثر دهاء فيما عرف بمشروع ممر بهارات الذي يربط إسرائيل بالسعودية في طريق تجاري استراتيجي. استكمال المشروع الذي بدأه ترامب والذي بدا فيه أن الفلسطينيين قد نُبذوا تماما من أمتهم وأن قضيتهم شُطبت من جدول الأعمال الدولي وتوشك على الخروج من التاريخ هو سبب رئيسي من أسباب طوفان الأقصى. بعدها قادت حرب الإبادة الجماعية ونشأت جبهات الإسناد إلى سلسلة الحروب على جبهات مقاومة مختلفة ترفض تحويل القضية الفلسطينية على يد رجل أعمال إلى صفقة اقتصادية وتستبدل تقرير المصير والتحرر من الاستعمار الإحلالي بمشروعات عقارية ومنتجعات ترفيه وهمية تستولي عبرها الرأسمالية العالمية والإقليمية على شاطئ وغاز بحر غزة.
إن زعم ترامب أن حرب ٧ أكتوبر حدثت لأنه لم يكن الرئيس وقتها وأنه سيعيد في فترته الثانية الاستقرار الذي سبق وصنعه في المنطقة في فترة حكمه الأولى هو أبعد شيء عن الحقيقة فكل ما فعله هو تحويل المنطقة إلى برميل بارود جاءته فقط شرارة الاشتعال على يد خلفه الذي واصل ما بدأه.
الاقتراح الثاني: هو التفريق في فداحة الضرر والأذى التي قد تلحقها سياسات ترامب الشرق أوسطية بين طرفين سيكونان هدفًا مؤكدًا لعدائه. فعلى الرغم من أن عداء السياسة الأمريكية وترامب لمعسكر المقاومة العربي/الإيراني للهيمنة الأمريكية-الإسرائيلية على المنطقة هو عداء تام فإن وسائل إلحاق الضرر ستتباين بين أعضاء هذا المعسكر.. بالنسبة لإيران فإن الاستراتيجية هي الإضعاف والمحاصرة وليس السحق أو التدمير. ستكون القوة الخشنة موجودة ولكنها ستكون إسرائيلية ومحسوبة ولن تكون أمريكية مباشرة، إلا في حال قيام إيران بتهديد عسكري وجودي لإسرائيل.
القوة الأمريكية لن تكون الوسائل الرئيسية في عملية إضعاف إيران لكنها ستكون العقوبات الاقتصادية والحصار النفطي ودعم المعارضين لتفكيك النظام من الداخل. الموضوع النووي الإيراني كذلك -على الأغلب- لن يكون حله عسكريًا لأنه يتطلب مشاركة أمريكية مباشرة لا تتفق مع أفكار ترامب الانعزالية الراغبة في عدم التورط في حروب جديدة. المرجح أن يتجه ترامب لعقد اتفاق نووي جديد مع طهران بدلا عن الاتفاق القديم الذي ألغاه عام ٢٠١٨. ألمح ترامب لتفضيله هذا الخيار مدعيًا أنه سيجلب اتفاقا بشروط أفضل. فيما يتعلق الأمر بالأطراف العربية المقاومة -خاصة حزب الله وحماس- فإن الاستراتيجية الترامبية تتطابق مع نتنياهو في سحق المقاومة أو على الأقل إنهاء تهديدها لإسرائيل لأجيال مقبلة. التصعيد ومنح جيش الاحتلال شيكا على بياض تلخصه نصيحة ترامب لنتنياهو «انهِ المهمة -أي الحرب- بسرعة وافعل ما عليك فعله». لو طبقنا ذلك على السبعين يوما الباقية لبايدن كرئيس فإن ترامب ربما يسعى لإقناع بايدن في اللقاء التقليدي بين الرئيس المنصرف والرئيس المنتخب أن يعطي لنتنياهو كل ما يحتاجه من أسلحة للاستمرار في حرب الإبادة في غزة وجنوب لبنان. يأمل ترامب أن تكون مدة كافية لنتنياهو لإيجاد حقائق على الأرض في غزة وجنوب لبنان يزعم فيها الإسرائيليون أنهم حققوا أهدافهم ويتقدم ترامب بهذه الحقائق ليفوز بلقب بطل إنهاء الحرب بتسوية ضيزى في غزة تنهي حكم حماس وتسمح لإسرائيل بحرية العمل العسكري متى شاءت وتدخل قوة عربية مع السلطة الفلسطينية لتولي المعبر وحفظ الأمن والتأكد من حجب أي نشاط للمقاومة من القطاع.
بهذا الاتفاق وإعطاء وعد مبهم ما يسمى مسارًا موثوقًا لقيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح ممزقة بمستوطنات ومسروق منها معظم الضفة الغربية سيضغط ترامب لإنجاز اتفاق التطبيع الإسرائيلي مع السعودية وسيعطي الرياض ما تريده من تحالف دفاعي وبرنامج نووي سلمي وسيزيل ترامب أي تحفظ إسرائيلي في هذا السياق.
استهداف ترامب المقاومين العرب بالسحق العسكري واستهداف القضية الفلسطينية بالسحق السياسي واستهداف الحلفاء العرب بالتبعية التامة هو نتيجة لعدم امتلاك العرب لرادع عسكري يقيم لهم وزنا كذلك لا يوجد مشروع قومي عربي ولا دولة عربية قائدة. ولا تثق بكين وموسكو كثيرا بالعالم العربي بعد أن غدر بهما في السبعينيات على مذبح التقرب من واشنطن. أما الوقوف عند شاطئ الإضعاف واستراتيجية الضغط القصوى والنأي عن السحق التام فيعود لأن إيران تمتلك رادعا من الصواريخ الباليستية والمسيّرات والشركاء العرب من غير الدول في ٤ ساحات كما أنهم لا يقفون لوحدهم فهم جزء من تحالف دولي يضم روسيا والصين الواثقين في استقلال سياسة إيران الخارجية وعدائها الثابت للإمبريالية الأمريكية.