رؤى

صهيب بن سنان الرومي.. “لو لمْ يخفِ اللهَ لمْ يعْصِهِ”!

لقد اختار الله لصهيب الخير كله يوم وقع في أسر الروم طفلا صغيرا.. فلولا هذا الحدث الجلل لم يكن الصبي المنعّم ابن حاكم “الأبُلَّة” من قبِل كسرى ليغادر قصر أبيه إلى حيث مهبط النور.. في بلاد الروم شبَّ صهيب وصار رجلا.. كان كثير الحركة دائم العمل والتنقل، يخالط الجميع بسماحة؛ وصار لسانه أعجميا.. لكن شيئا ما أيقظ روحه ودفعه دفعا إلى مبارحة ديار الروم والقدوم إلى مكة.. وهناك صار مولى لعبد الله بن جدعان الذي أحبه كولده، لما تمتع به صهيب من حميد الخصال، فهو ذكي لماح ذو حضور لا تنقصه خفة الظل، وهو شجاع أمين نشيط لا يعرف الكلال بالإضافة إلى جمال صورته وكرمه الذي جاوز كل حد.

في مكة عمل صهيب واجتهد حتى صار صاحب تجارة من الأغنياء.. التقى الحبيبَ محمدا ذات يوم في طرق مكة قبل البعثة؛ فملأ حبه قلب صهيب، صارا صديقين بعد أن أنس كل منهما بالآخر.. رأى النبي في صهيب نفسا نقية وروحا تتوق إلى المعاني السامية؛ مترفعا عن كل الدنايا وما يستذل الرجال؛ حتى قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليحب صهيبا حب الوالدة لولدها”. رواه الحاكم في المستدرك.

وعندما نزل الوحي على رسول الله، علم صهيب فبادر إليه في دار الأرقم.. وعند الباب لقي صديقه عمار بن ياسر فدخلا سويا وأسلما بين يدي الحبيب، ثم مكثا يوما حتى أمسيا فخرجا مستخفيين.

وكان صهيب سابع سبعة أعلنوا إسلامهم دون خوف من بطش قريش التي بالغت في تعذيبه هو وعمار وبلال.

روى الواقدي عن عثمان بن محمد، عن عبد الحكم بن صهيب، عن عمر بن الحكم، قال: كان عمار بن ياسر يُعذّب حتى لا يدري ما يقول، وكان صهيب يُعذّب حتى لا يدري ما يقول، في قوم من المسلمين، حتى نزلت “ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ” النحل110

ويروي صهيب قصة هجرته فيقول: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقد كنت هممت بالخروج معه، فصدني فتيان من قريش، فجعلت ليلتي تلك أقوم لا أقعد، فقالوا: قد شغله الله عنكم ببطنه – ولم أكن شاكيا – فناموا، فذهبت، فلحقني ناس منهم على بريد، فقلت لهم: أعطيكم أواقي من ذهب وتخلوني؟ ففعلوا، فقلت: احفروا تحت أسكفة الباب تجدوها، وخذوا من فلانة الحُلتين، وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قباء فلما رآني، قال: يا أبا يحيى، ربح البيع، ثلاثا، فقلت: ما أخبرك إلا جبريل.

وروي أن صهيبا عندما أقبل مهاجرا، تبعه نفر فنزل عن راحلته، ونثل كنانته، وقال: “لقد علمتم أني من أرماكم، وايم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم معي، ثم أضربكم بسيفي، فإن شئتم دللتكم على مالي، وخليتم سبيلي؟ قالوا: نفعل، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال: ربح البيع أبا يحيى! ونزلت الآية “وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ” سورة البقرة 207

في المدينة لازم صهيب رسول الله وشهد معه المشاهد كلها.. لم يغب عنه أبدا ولم يلتفت.. فلم يكن ليشغله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاغل.. وها هو يصف نفسه بدقة فيقول: “لم يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا قط إلا كنت حاضره.. ولم يبايع بيعة قط إلا كنت حاضرها.. ولم يَسِرْ سَرِيَة قط إلا كنت حاضرها.. ولا غزا غزاة قط، -أوّل الزمان وآخره- إلا كنت فيها عن يمينه أو شماله.. وما خاف المسلمون أمامهم قط، إلا كنت أمامهم.. ولا خافوا وراءهم إلا كنت وراءهم.. وما جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين العدوّ أبدا حتى لقي ربه”.

والله إن هذا الوصف ليوضح لنا حقيقة تلك النفس المطمئنة التي لم تعرف الدنيا طريقا إليها.. تلك النفس المجبولة على الفضائل؛ حتى ليقولَ عنه عمر بن الخطاب: “نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يَعْصِه”.

وما يدل على خفة ظل صهيب ما رواه الحاكم في المُستدرك عن صهيبٍ أنه قال: “قدِمْتُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالهِجْرةِ وهو يأكُلُ تَمرًا، فأقبَلْتُ آكُلُ منَ التَّمرِ وبعَيْني رَمَدٌ، فقالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أتأكُلُ التَّمرَ وبكَ رَمَدٌ؟ فقُلْتُ: إنَّما آكُلُ على شِقِّي الصَّحيحِ الَّذي ليس به رَمَدٌ، قالَ: فضَحِكَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.

ربما كانت هذه الصفة اللطيفة ما دعت ابن الخطاب لمشاكسته دوما، حتى يسمع منه تلك الردود الصادقة الضاحكة.. فقد روي أن عُمرا قال له ذات يوم: “أي رجل أنت لولا خصال ثلاث فيك! قال: وما هن؟ قال عمر: اكتنيت وليس لك ولد، وانتميت إلى العرب وأنت من الروم! وفيك سرف في الطعام. قال صهيب: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كناني أبا يحيى، وأنا من النمر بن قاسط، سبتني الروم من الموصل بعد إذ أنا غلام قد عرفت نسبي، وأما قولك في سرف الطعام، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “خيركم من أطعم الطعام”. وقد بلغت منزلة صهيب عند عمر أن أمره يوم طُعن أن يؤم الناس في الصلاة حتى يختاروا خليفة له.

وقد رزق الله صهيبا ذرية صالحة، فكان له من الأبناء: حبيب وحمزة وعثمان وصيفي وسعد وعباد وصالح ومحمد.. وكلهم رووا عنه الحديث، كما روى عنه حفيده زياد بن صيفي وسعيد بن المسيب وكعب الأحبار وعبد الرحمن بن أبي ليلى وابن عمر وجابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام وعبيد بن عمير الليثي وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وأسلم مولى عمر وسليمان بن أبي عبد الله وشعيب بن عمرو بن سليم الأنصاري وعبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة ومجاهد بن شهاب النمري ومصعب بن سعد بن أبي وقاص.

وقد أحصى بقي بن مخلد لصهيب في مسنده 30 حديثا، روى مسلم منها ثلاثة أحاديث، كما روى له الجماعة في كتبهم.

وقد اعتزل صهيب بن سنان الفتنة بعد مقتل عثمان حتى توفي في المدينة المنورة في شوال سنة 38 هـ، على خلاف في مقدار عمره وقت وفاته، فقيل 70عاما وقيل 73 عاما، وقيل 84 عاما، وقد صلى عليه سعد بن أبي وقاص، ودُفن بالبقيع.. رضي الله عن صهيب بن سنان وأرضاه.

 

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock