رؤى

الضيف جلَّاد “إسرائيل”.. صورة عن قُرب

رغم أن محمد دياب إبراهيم المصري (محمد الضيف) قضى في سجون الاحتلال ستة عشر شهرا؛ إلا أن المعلومات الاستخباراتية الخاصة به- مُحيت تماما ولم يُعثر لها على أثر، ولم يُعرف له سوى ثلاث صور فقط؛ إحداها وهو ملثم.. ليظل الضيف بالنسبة للكيان شبحا يؤرق مضاجعهم؛ حتى عندما استشهد في يوليو الماضي -لم تحدد المقاومة الوقت الدقيق لاستشهاده- لم يستطع جيش الاحتلال الجزم بذلك؛ ليظل “المصري” في حياته وبعد ارتقائه.. كابوسا للمحتل لن ينساه أبدا؛ بعد أن شارك في التخطيط والتنفيذ لخمس معارك ضد المحتل؛ بالإضافة إلى التخطيط للعديد من العمليات الاستشهادية، واختطاف جنود جيش العدو، وتطوير الصواريخ والأسلحة والأنفاق، والقيادة الميدانية لكتائب الشهيد عز الدين القسام في معركة السابع من أكتوبر2023، وما تلاها من معارك حتى يوم استشهاده، بالإضافة إلى إعداد وتدريب جيل من المجاهدين؛ رأينا بلاءهم في طوفان الأقصى، على نحوٍ أبهر العالم.

ينتشر لقب “المصري” انتشارا كبيرا بين أبناء الشعب الفلسطيني، وتعتبر عائلة المصري من أكبر العائلات الفلسطينية، وترجع أصول “الضيف” إلى جد مصري غادر موطنه إلى فلسطين مع أربعة من إخوته، بالتزامن مع الحملة الفرنسية على مصر 1798، واستقر  الجد بقرية القُبَيْبَة شمال غرب مدينة القدس، واستمر بقاء العائلة بالقرية إلى أن حدث التهجير عقب مجزرة الدوايمة -تقع بالقرب من القُبَيْبَة- في 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1948، لتستقر العائلة في مخيم مدينة خان يونس بالقطاع، وهناك ولد محمد الضيف عام 1965.

في المخيم عانت الأسرة ظروفا اقتصادية بالغة الصعوبة، اضطرت الطفل للعمل في عدد من الحرف؛ ما أثّر على الدراسة، وانتظامه فيها؛ لكنه ظل متمسكا بالتعليم حتّى تخرّج في الجامعة الإسلامية بغزّة؛ متحصِّلا على بكالوريوس العلوم.

في الجامعة مارس الضيف العديد من الأنشطة؛ خاصةً النشاط المسرحي؛ حيث كوّن فرقة مسرحية أسماها “العائدون”، لكن نشاطه الفني الواسع الذي سخّره لخدمة قضية التحرر الوطني؛ لم يشغله عن المشاركة الفعلية في النضال ضد المحتل الغاصب؛ ما تسبب في اعتقاله عام 1989، حيث قضى في سجون الاحتلال ستة عشر شهرا دون محاكمة.

في السجن التقى بطلنا بزكريا الشوربجي وصلاح شحادة، وخططوا لتأسيس حركة منفصلة عن حماس؛ هدفها الأول أسر جنود الاحتلال، وأسموا هذه الحركة كتائب الشهيد عز الدين القسام.

فور الإفراج عنه بدأت كتائب القسَّام في تنفيذ عملياتها ضد قوات الاحتلال؛ ثم انتقل “المصري” إلى الضفة الغربية، ليؤسس فرعا لكتائب القسام هناك، عند اغتيال الشهيد عماد عقل في 1993، أصبح الضيف قائدا بارزا في كتائب القسَّام.

عام 2000، أوعزت سلطات الاحتلال للسلطة الفلسطينية بضرورة القبض على الضيف، سارعت سلطة أوسلو بتنفيذ الطلب الصهيوني.. لكن الضيف فرَّ من محبسه بعد أيام من اعتقاله.

وعندما اغتيل قائد كتائب القسام  الشهيد صلاح شحادة عام 2002، تولى الضيف قيادة الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”.

تعلّم  محمد دياب صناعة القنابل على يد المهندس يحيى عيّاش، وأسهم بدور فاعل في تطوير صواريخ المقاومة، كما استطاع مع  فريق من المتخصصين تطوير وتحصين شبكات الأنفاق؛ ذلك السلاح الذي أو جع العدو ..وآلمه أشد الإيلام؛ بعد أن تسبب في نفوق أعداد كبيرة من جنوده ومرتزقته، و إصابة الكثيرين منهم  ببتر  الأطراف.

بعد اغتيال الشهيد يحيى عيّاش في الخامس  من يناير/كانون الثاني 1996، خطط الضيف لسلسلة من العمليات الفدائية، منها تفجيرات طريق الحافلات يافا في عمليتين بتاريخ  25فبراير و3 مارس 1996، نجم عنها مقتل  أكثر من خمسين صهيونيا، ثم عملية أسر الجندي نخشون فاكسمان.

لم يستخدم  محمد دياب المصري الهواتف النقالة ولا أجهزة اللاسلكي، ولم يبت ليلتين  متتاليتين في مكان واحد، واكتسب لقب “الضيف” لأنه كان يحل ضيفا -كل ليلة- على أحد البيوت الفلسطينيّة؛ لتضليل عيون العدو المبثوثة في كل مكان، وفي جنازة والدته في يناير 2011،  حضر  الضيف متخفيا.

 نجا الضيف من ثماني محاولات لاغتياله  نفذها جيش الاحتلال، أصيب في إحداها عام 2003، إصابة بالغة  في عينه اليمنى والعمود الفقري؛ وكان يتحمّل الألم ويرفض تناول المسكّنات.

وكانت أشد معاناة تعرّض لها بطلنا هي مقتل زوجته ورضيعه في غارة في 20 آب/ أغسطس عام 2014، على حي الشيخ رضوان، لكنّه اعتصم بالصبر واستكمل كفاحه ضد المحتل الذي  لم يهدأ بحثا عن الرجل الافعى.. كما لقّبته استخبارات العدو.

قاد الضيف أربعة حروب ضد الكيان الغاصب هي: “الفرقان” (2008)، “حجارة السجيل” (2012)، “العصف المأكول” (2014)، و”سيف القدس” (2021)، قبل أن يطلق عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر 2023.

في 13 يوليو 2023، أعلن جيش الاحتلال أنه قتل الضيف في غارة جوية على مجمع في منطقة المواصي- خان يونس بغزة. لكن حماس لم تؤكد الخبر إلا أمس الخميس على لسان الناطق العسكري لكتائب القسام.

ربما لم تعرف البشرية خلال تاريخها الحديث والمعاصر رجالا من هذا النوع النادر.. الذين صدق فيهم قول الرسول الأعظم عن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل: “… إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء”.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock