رؤى

شجار ترامب زيلينيسكي.. وتحولات العلاقات الأمريكية الدولية

يخشى فلاديمير زيلينيسكي، كما حلفاؤه الأوروبيون، دفع ثمن التقارب المتسارع بين واشنطن وموسكو؛ فيما يسعى للحصول على ضمانات أمنية في حال التفاوض على وقف الحرب الأوكرانية الروسية، وهو ما ترفض الولايات المتحدة منحه إياه. وقد تزايدت هذه المخاوف، بشكل خاص، بعد الاجتماع الذي عُقد في الرياض، بين وزيري الخارجية الروسي والأمريكي، وكان غير مسبوق منذ بدء الحرب قبل ثلاث سنوات؛ خاصة أن لقاء وزيري الخارجية، سيرغي لافروف وماركو روبيو، كان إشارة إلى بدء مباحثات أمريكية روسية لإنهاء الحرب، دون دعوة كييف أو الأوروبيين.

وقد ساهمت المشادة الكلامية بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونائبه جاي دي فانس، وبين الرئيس الأوكراني زلينيسكي، الجمعة 28 فبراير 2025، في إثارة التساؤلات، ليس فقط حول المخاوف التي تتزايد على الجانب الأوروبي بشأن إضعاف دور الأوروبيين المتعلق بالحرب في أوكرانيا؛ ولكن أيضا بخصوص تداعيات الخلاف المتنامي بين الولايات المتحدة وأوكرانيا.. خاصة أنه حين ينشأ “شجار”، وليس مجرد مُشادة كلامية، بين رئيسي دولتين، فالأمر لا يتعلق حتما بمشادة بين شخصين، بل بأزمة كبرى بين بلدين.

بل، ربما لا نُغالي إذا قلنا إن هذا الحدث، غير العادي، قد يحمل تداعيات كبيرة على العلاقات الدولية، خاصة بالنظر إلى السياقات الجيوسياسية الحالية؛ سواء في ما بين الولايات المتحدة وأوكرانيا، أو بينها وبين أوروبا، أو بينها وبين روسيا.

أمريكا أوكرانيا

جرت المشادة العلنية بين ترامب وزيلينيسكي بعد سلسلة من التوترات المتزايدة بين البلدين، بشأن الدعم الأمريكي لأوكرانيا في الحرب ضد روسيا. الولايات المتحدة كانت أكبر داعم لأوكرانيا منذ بداية الحرب، لكنها واجهت صعوبات داخلية في استمرار تقديم هذا الدعم، مع تزايد الانتقادات الداخلية والخارجية.

خلال الاجتماع، تفاقمت الخلافات بين ترامب وزيلينيسكي حول مواضيع مختلفة، بما في ذلك مطالب زيلينيسكي بزيادة الدعم العسكري والاقتصادي، في حين كان ترامب يضغط على زيلينيسكي لاتخاذ مواقف أكثر توافقًا مع المصالح الأمريكية، بما في ذلك الضغط عليه للتفاوض مع روسيا لإنهاء الحرب. ومن هنا بدأت المشادة الكلامية التي خرجت عن السيطرة، حيث تبادل الرئيسان كلمات “غير دبلوماسية” أمام وسائل الإعلام العالمية.

وبالتالي، فقد أثارت المشادة تساؤلات حول مستقبل الدعم الأمريكي لأوكرانيا؛ خاصة أن الخلافات العلنية بين ترامب وزيلينيسكي قد تشير إلى تغيرات في هذا الدعم.

من جهة، قد يتجه ترامب إلى إعادة تقييم مستوى الدعم المقدم لأوكرانيا، خصوصًا في ظل الضغط الداخلي من قبل مؤيديه، الذين يرون أن الولايات المتحدة لا يجب أن تكون مسؤولة وحدها عن الدفاع عن أوكرانيا. هذا قد يؤدي إلى تقليل حجم المساعدات العسكرية والاقتصادية المقدمة لأوكرانيا، أو وضع شروط أشد على تلك المساعدات، ما يضع أوكرانيا في موقف أصعب.

من جهة أخرى، قد يشعر زيلينيسكي بضرورة البحث عن شركاء جدد لتعويض أي تراجع في الدعم الأمريكي. هذا قد يفتح الباب أمام تعزيز العلاقات مع دول أخرى، مثل الاتحاد الأوروبي، خاصة دول شرق أوروبا، أو تركيا، لتعويض النقص المحتمل في الدعم الأمريكي.

أمريكا أوروبا

هذه المشادة العلنية، بين الرئيسين الأمريكي والأوكراني، من المحتمل أن تؤثر أيضا على العلاقات الأمريكية الأوروبية. كانت أوروبا تدعم أوكرانيا سياسيا وعسكريا بشكل أقل من الولايات المتحدة، مع بعض التحفظات الداخلية في الاتحاد الأوروبي حول مدى التورط في الحرب ضد روسيا. المشادة بين ترامب وزيلينيسكي قد تدفع الاتحاد الأوروبي إلى التفكير في زيادة دعمه لأوكرانيا، لتعويض التراجع الأمريكي المحتمل، ولكنه في نفس الوقت قد يؤدي إلى انقسام بين الدول الأوروبية نفسها، حول الدعم الأوروبي وحجمه وأهدافه.

دول مثل ألمانيا وفرنسا، التي تفضل التعامل مع روسيا بحذر وتحاول إيجاد حلول دبلوماسية، قد تتردد في زيادة الدعم العسكري لأوكرانيا. في المقابل، دول مثل بولندا ودول البلطيق قد تضغط على الاتحاد الأوروبي لتعزيز المساعدات المقدمة لأوكرانيا خوفا من تمدد النفوذ الروسي في شرق أوروبا.

كما أن هذه المشادة قد تؤثر سلبا على العلاقات عبر الأطلسي بين الولايات المتحدة وأوروبا. الرئيس ترامب قد يستخدم هذا الحدث كذريعة لزيادة الضغط على دول الاتحاد الأوروبي، للقيام بدور أكبر في دعم أوكرانيا، وهو ما قد يؤدي إلى توتر في العلاقات مع دول الاتحاد، التي قد تعتبر أن ترامب يحاول التنصل من التزاماته الدولية.

أمريكا روسيا

على الرغم من أن العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا كانت متوترة منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، إلا أن هذه المشادة قد تقدم لروسيا فرصة لتحسين وضعها. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد يستغل هذه الخلافات بين الولايات المتحدة وأوكرانيا لمحاولة كسر التحالف الغربي ضد روسيا.

بوتين قد يرى في تراجع الدعم الأمريكي فرصة لتعزيز مواقعه العسكرية والسياسية في أوكرانيا، وقد يزيد من الضغط على زيلينيسكي للتفاوض على شروط أكثر ملاءمة لروسيا. في حال نجاح روسيا في إقناع أوكرانيا بالدخول في مفاوضات، قد يؤدي ذلك إلى تغييرات كبيرة في توازن القوى في المنطقة.

علاوة على ذلك، قد يكون ترامب أكثر استعدادا للتفاوض مع روسيا بعد المشادة مع زيلينيسكي، خصوصا إذا كان يرى أن التفاوض مع روسيا قد يخفف من الالتزامات الأمريكية تجاه أوكرانيا. هذا قد يؤدي إلى إعادة ترتيب العلاقات الأمريكية الروسية في ظل سياسات أكثر براغماتية من قبل ترامب، لكنه في نفس الوقت قد يثير غضب الحلفاء الأوروبيين الذين لا يثقون في نوايا روسيا.

احتمالات مستقبلية

بعد هذه المشادة، يبدو أن العلاقات بين الولايات المتحدة وأوكرانيا قد تدخل مرحلة من عدم الاستقرار. إذا استمر الخلاف بين ترامب وزيلينيسكي، فقد يكون لذلك تداعيات واسعة على الدعم الدولي لأوكرانيا، وعلى مسار الحرب نفسها. في الوقت نفسه، قد تشهد العلاقات الأمريكية الأوروبية بعض التوترات، إذا حاول ترامب إعادة توزيع الأعباء فيما يتعلق بالدعم لأوكرانيا على دول الاتحاد الأوروبي.

على الجانب الآخر، قد تسعى روسيا لاستغلال هذه الفرصة لتعزيز نفوذها في أوكرانيا وربما دفع الغرب إلى التفاوض على شروط أكثر مواتية لروسيا. إذ، في حال استمرار تدهور العلاقات الأمريكية الأوكرانية، قد تسعى روسيا إلى تقوية تحالفاتها مع بعض الدول الأوروبية التي تتطلع إلى إنهاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على موسكو. بعض الدول الأوروبية، مثل هنغاريا وإيطاليا، قد تكون أقل التزاما بسياسة العقوبات، وتبحث عن فرص لتحسين علاقاتها مع روسيا من أجل مصالح اقتصادية. إذا تمكنت روسيا من استغلال التوترات بين الولايات المتحدة وأوكرانيا، وإعادة بناء بعض علاقاتها الاقتصادية مع أوروبا، فقد يكون لهذا تأثير كبير على الحرب في أوكرانيا وعلى مستقبل العقوبات الغربية.

في هذا الإطار.. يمكن القول إن المشادة الكلامية بين ترامب وزيلينيسكي تعكس تعقيدات العلاقات الدولية المتشابكة بين الولايات المتحدة، أوكرانيا، أوروبا، وروسيا. في حين قد يؤدي هذا الحدث إلى تغيرات جذرية في سياسات الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا، فإن تأثيراته قد تمتد لتشمل العلاقات عبر الأطلسي والتوازنات الجيوسياسية في شرق أوروبا.

إلا أن الاحتمالات المستقبلية تعتمد بشكل كبير على كيفية تطور العلاقات بين ترامب وزيلينيسكي بعد المشادة، وكذلك على استجابة الأطراف الدولية الأخرى. السيناريوهات تتراوح بين تراجع الدعم الأمريكي لأوكرانيا، وزيادة الضغوط على أوكرانيا للتفاوض مع روسيا، وحتى تحسين محتمل في العلاقات الأمريكية الروسية. في كل الأحوال، يبدو أن المشادة الكلامية قد تكون نقطة تحول في العلاقات الدولية المحيطة بالحرب في أوكرانيا، وستكون لها تأثيرات بعيدة المدى على السياسة الخارجية الأمريكية والتحالفات الدولية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock