خمس عشرة قصة تضمّنتها المجموعة القصصية الأولى لسيف بدوي، الشاعر والناقد وصاحب التجربة الأدبية المتميزة.. وربما كان صدور تلك المجموعة؛ استجابة لتوق قديم للقص بوصفه طاقة بوح مغايرة.. كان لسيف ديوان شعر صدر أواخر التسعينات عن هيئة قصور الثقافة بعنوان “ساعة العناق”.
لكن شاعرية بدوي لا تعلن عن نفسها في قصصه.. إنه يمتلك أدواته في هذا الفن امتلاكا يُطَوَّع بمهارة؛ ليحولَ دون تدفق النفس الشعري بين سطور سرده اليقظ.. فلغة السرد لدى بدوي هادئة، راصدة، حاسمة وملهمة في آن.. تؤدي وظيفتها بإتقان دون ترهل أو إسهاب.. على نحوٍ ربما لا يتسنَّى لكثير من كُتّاب القصة المتمرسين.. لغة تحمل المعنى دون تكلّف الحكمة أو نفاذ البصيرة.. ولها من سمت التواضع، ما لأبطال قصص المجموعة الذين يعيشون -بلا استثناء- على الهامش.
في قصة “تحية” نرصد حضور المكان بقوة من خلال “عَرْصَة العطارين”، “حارة البلابلة”، “حي المنشية”، “شارع التجاري” ومصنع حلوى “المشبِّك” التي تشتهر بها مدينة دمياط.. سطوة المكان تقف معادلا للحضور شبه المتواري لشخوص القصة، باستثناء “تحية” التي تشخص في سمت أنثوي صارخ، انتهكته دونية هذا الشخص المُهدِّد الذي لا نعلم كيف أوقع بتحية؟ وكيف تمادت معه إلى نقطة، فرضت عليها التخلص منه، حلا وحيدا لا فرار منه.
في قصة “أمشاط من العظم” نحن أمام حالة من الإشفاق تُغلّف مشاعر الراوي نحو صديقه، مع بعض التململ وعدم الفهم؛ فالصديق من أولئك الذين كُتب عليهم التضحية على نحو مأساوي دون أدنى أمل في النجاة.. إنها مهنة العائلة التي يجب أن تصان، رغم دونيتها ولا جدواها.. التراث البائد من العادات والتقاليد الذي يطوق أعناق الكثيرين منا، ويدفعهم للتضحية بالغالي والنفيس من أجل الإبقاء عليه، وهو في الحقيقة لا يساوي شيئا؛ لكن له من القدرة على تكبيل الإرادة وإجهاض الأحلام ما ليس لغيره.. وفي نهاية القصة يخبرنا البائس بمأساة أخته التي أكلتها النار فوق سطح البيت.. ليختلط في أنوفنا رائحة شواء اللحم البشري، بالقرون المحترقة المستخدمة في صنع الأمشاط “البائرة” والأحلام الخامدة.. قصة تعالج في تكثيف بديع عدة قضايا من الأهمية بمكان.
الاستسلام التام للأقدار.. والرضا والتسليم بالقضاء، سمة غالبة على أبطال سيف.. فاليأس راحة كما يقال، في انتظار الفرج، أو أي فرصة للانعتاق من الأسر.. كما في قصة “العِزال” التي تصوِّر علاقة زوجية تقف على حافة الانفصال، في بيت يعج بالأطفال الذين يشبهون “الجرذان تخرج من الجحور وتعود إليها تنبش أو تقرض كل ما تطاله” لكن العروس لا يطيب لها العيش مع زوج لا يعمل ولا يشغله شيء عن تدخين “الجوزة” وينال حقوقه كاملة كل ليلة في رتابة قاتلة، وعلى نحوٍ لا يُطفئ غُلة المرأة.. في وجود حماة وثلاث عمّات مُطلّقات؛ قضت على حياتهن الزوجية تدخلات العجوز “الناشفة”.
يبدع سيف في هذه القصة في ذكر التفاصيل الخاصة بهذا المنزل الكئيب الذي تقرر العروس – في النهاية- مغادرته بـ “عزالها” إلى بيت أبيها.. لكنها ترى قلب موازين معركتها الخاسرة؛ فتنهي هذا البؤس بما يستحق من سعير.
يتشابه أبطال قصص بدوي في عدد من الصفات فهم بسطاء.. بل بالغو البساطة، يمتهنون مهنًا متواضعة: عاملة مصنع، خادمة، بائع تين على عربة يد، حرفي، موظف.. كما أنهم لا يطمعون من الدنيا سوى بالقليل.. أحدهم لا يطمع في أكثر من فنجان قهوة يشربه مع سيجارة “في أمان الله” كما في قصة “العازف” أما الخادمة في “التين وعسله” فهي لا تطمع في شيء إلَّا “الستر” بالزواج من رجل بسيط جاء مثلها من الريف إلى مدينة تطحن بقسوتها عظامهما معا.. لم نلمح بين أبطال سيف بدوي، رجالا من ذوي الحظوة، ولا حتى من المستعلين على الناس بالحكمة وعمق التجربة.. أناس عاديون فقط يشبهون السواد الأعظم منا دون رتوش. كما في قصة “الورقة” التي تحكي قصة العاشق الذي خط الشيب شعره، وتسعى فتاته لإقناعه بصبغ شعره.. لكنه يباغتها بالرفض بعد أن ابتاعت له بنفسها الصبغة.. شاخت روحه ولا سبيل لصبغها وقد عُتّقت في تجارب الأحزان.. إنها أنشودة للفوات – إذا جاز التعبير- ذلك الشعور المؤلم بانقضاء العمر، أو هو الرضا والتسليم الذي تحدثنا عنه سلفا أو التمسك بالرأي، دون بذل الجهد لإرضاء الآخر الذي أتى من زمن آخر.. ولا سبيل على وجه الحقيقة لاسترضائه.
في “تلك الأيام” نرصد بعضا من متع الطفولة المختلسة، في حضور أنثوي باذخ -كالعادة- يتمثل في أبلة سناء الجارة الجميلة التي تدعو الطفل لبيتها، ويشهدها راقصةً في حضور زوجها.. واصطفائه لـ”دعك ظهر” الأبلة في تعرّق الشتاء المُغوي، ثم وهي تمطره بحنان لا يجده في أمه التي تخشى عليه، غيابه المتكرر دون أن يعلم أحد أين كان.. ثم افتضاح أمره بالعين السحرية أثناء صعوده.. وذلك الحزن المقيم بعد منعه من الصعود إلى أبلة سناء، ووفاة زوجها؛ ثم رحيلها الذي يشبه طعنة غائرة لا شفاء منها.
طفل “تلك الأيام” من الممكن أن يكون قد قفز في فترة أخرى إلى “أيادٍ رحيمة” وذلك السرد الماتع لتفاصيل يوم “الخبيز” الذي كانت تعرفه قديما معظم بيوت المدينة الساحلية التي ينتمي إليها كاتبنا، والتاريخ هنا محدد ومعلوم على خلاف كل قصص المجموعة، فهو خريف 1981، الذي شهد مقتل السادات.. وتبقى دلالة عنوان القصة مفتوحة، حول تلك الأيادي الرحيمة، أهي التي صنعت الخبز؟ أم هي تلك التي وضعت حدا لخيانة الحلم.
“لفحات أغسطس” هي القصة التي اختار سيف بدوي عنوانها، ليكون عنوانا للمجموعة، وربما يرى البعض أن “التين وعسله” أو “تلك الأيام” كانا أولى باسم المجموعة من “لفحات أغسطس” التي تغوص بنا، في تفاصيل معاناة بطل القصة، الذي فقد خليلته على نحو ما، وهذا الافتقاد الذي يضاعف من إحساسه بِحَرِّ أغسطس (آب اللهاب) كما يقال عنه في بلاد الشام، وذلك المنفذ المفتوح على حياة أخرى، تجلو سحائب الأحزان، بحضور أنثوي “فارهٍ” للجارة “امتياز” التي تزعجه بدق “الهون” لصنع “كفتة الجمبري” ولتنبيه الغافل بأن الحياة مازالت قادرة على منحه فرصة أخرى، يستطيع من خلالها تعويض ما فاته في أيام الوحدة والياس.
لا تفتقر المجموعة القصصية إلى ذلك الحس الفكاهي الرائق، كما في قصة “قميص أصفر شفاف” ولا إلى ما يمكن وصفه بالكوميديا السوداء، في قصة “الطابق الخامس”. وفي قصة “أعرفها” يصنع بدوي حزنا خاصا يقترب من اللوعة الممزوجة بالشعور بالذنب، تجاه تلك المرأة المُحبّة الوفية التي تُبْتَلَى في عزيزها، فتضطر – تحت ضغط الفاقة- إلى بيع الجوارب في المقاهي.. إلى أن تحدث المواجهة مع من خذلها، فترفض أن يمد إليها يد المساعدة وتنسحب مسددةً إليه نظرة؛ لم يقوَ بعدها على رفع عينه.. وقد أردته المرأة الجريحة دون رحمة.
مجموعة “لفحات أغسطس” عمل قصصي يستحق أكثر من قراءة، وتنفتح قصصه على كثير من التأويلات، شاهدةً على زمن تشحب مفرداته في الذاكرة، فتقوم مقام الموثّق الأمين، كما أنها من حيث اللغة تعتبر نموذجا للغة سردية رشيقة ومقتصدة في جمال وبهاء لا يخفيان على أحد، وإن كانا أفلحا بجدارة في إخفاء شاعرية القاص الحذر المتمكن، بما يمكن القول معه أن سيف بدوي قد أخضع الشاعر والناقد -في عقله- لحالة من السرد الخالص، وجعل بينه وبينهما “بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ” باقتدار يستحق عليه كل تقدير.