في تطور لافت يشير إلى تحول في المشهد السياسي الليبي، شهدت العلاقات بين تركيا وقائد الجيش الليبي، المشير خليفة حفتر، تقاربا ملحوظا خلال الفترة الأخيرة. وقد تُوّج هذا التقارب بتوقيع بلقاسم حفتر، مدير صندوق التنمية وإعادة إعمار ليبيا، في 14 أبريل 2025، حزمة اتفاقيات مع شركتين تركيتين لتنفيذ مشاريع بنية تحتية وإنشاء مستشفيات في مدن الشرق الليبي، مثل بنغازي والبيضاء وطبرق.
هذا المشهد لم يكن متوقعا قبل أعوام قليلة، خاصة أن بلقاسم حفتر هو نجل المشير خليفة حفتر؛ ومن ثم تمثل هذه الخطوة تحوّلا نوعيا في العلاقة بين تركيا وقيادة الجيش الوطني الليبي، بعد سنوات من التوتر والخصومة الشديدة؛ وذلك منذ أن دعمت تركيا حكومة الوفاق الوطني، التي كان يترأسها فائز السراج، خلال معركة طرابلس، عام 2019-2020، في مواجهة قوات الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر.
فمنذ ذلك الحين، تحوّلت تركيا إلى خصم مُعلن لشرق ليبيا، حيث شُنت حملات إعلامية وسياسية ضد “التدخل التركي”، وهدّد حفتر مرارا باستهداف المصالح التركية في البلاد.
من هنا، فإن هذا التحول الأخير يثير تساؤلات حول دوافعه وتداعياته على المشهد الليبي والإقليمي.
دوافع التقارب
بالطبع، هناك عدد من العوامل الدافعة إلى مثل هذا التقارب بين شرق ليبيا وأنقرة.. أهمها:
من جانب، المصلحة الاقتصادية التركية في مشاريع إعادة الإعمار؛ إذ إن تركيا من بين أكثر الدول استعدادا وخبرة للمشاركة في جهود إعادة إعمار ليبيا، لا سيما في مجالات البناء، وتشييد المستشفيات، وتطوير البنية التحتية. لكن استمرار القطيعة مع شرق ليبيا كان يحرمها من الدخول إلى سوق مهمة واستراتيجية. ومن خلال هذا التقارب، تسعى أنقرة للحصول على عقود ضخمة، سواء من خلال الشركات الحكومية أو الخاصة، لتكون لاعبا اقتصاديا فاعلا في ليبيا كلها، وليس في الغرب فقط.
كما أن الجانب التركي يراهن على الصندوق السيادي الضخم الذي أُعلن عن إنشائه في شرق ليبيا، والذي تُقدر موازنته بمليارات الدينارات الليبية، لتمويل مشاريع بنى تحتية كبرى، وهو ما يجعل التوجه نحو بلقاسم حفتر بوابة اقتصادية مهمة.
من جانب آخر، إعادة تموضع إقليمي لتركيا، في ضوء التقاربات مع مصر والإمارات؛ فقد شهدت السياسة الخارجية التركية، تحوّلات لافتة في السنوات الأخيرة، تمثّلت في تحسين العلاقات مع خصومها السابقين، وعلى رأسهم مصر والسعودية والإمارات.
وضمن هذا الإطار، أعادت أنقرة ترتيب أولوياتها في ليبيا، مع تفادي المواجهة مع القاهرة أو أبو ظبي، وهو ما سمح لها بالانفتاح على قيادات الشرق الليبي، بما فيهم حفتر نفسه.
ويبدو أن هذا التحوّل ليس مجرد نتيجة للبراغماتية السياسية التركية، بل أيضا استجابة لتراجع الرغبة الدولية في بقاء خطوط التماس الليبية على حالها، وتشجيع الأطراف على التهدئة والانفتاح المتبادل.
من جانب أخير، التحوّل الحاصل في خطاب القيادة في الشرق الليبي؛ حيث من اللافت كذلك التحوّل في خطاب حفتر نفسه تجاه تركيا، فبينما كان يصفها سابقا بـ”الاستعمار الجديد”، فإن سلوكه الحالي يشير إلى إدراك بأهمية الانفتاح على كل الفاعلين الدوليين، وعدم حصر الشراكات مع محور معين. ويأتي ذلك ضمن مساعٍ لتقوية الحضور الدولي لحفتر وابنه بلقاسم، وإعادة تسويق نفسيهما كفاعلين منفتحين ومستعدين للتعامل مع مختلف الشركاء.
أضف إلى ذلك، طموح بلقاسم حفتر السياسي والاقتصادي؛ إذ لا يمكن تجاهل البُعد الشخصي في هذا التحوّل، فبلقاسم حفتر الذي بدأ يبرز كلاعب اقتصادي وسياسي شاب، يسعى لتعزيز حضوره الإقليمي والدولي، وربما التمهيد لوراثة الدور السياسي والعسكري لوالده. ومن هذا المنظور، فإن توقيع اتفاقيات اقتصادية مهمة مع تركيا، يمنحه صورة “القائد الحداثي البراغماتي”، القادر على تجاوز العداوات السابقة لصالح البناء والتنمية.
تداعيات التقارب
كثيرة هي التداعيات المحتملة على التقارب التركي مع الشرق الليبي، وهي تداعيات يتعلق بعضها بالأبعاد السياسية والأخرى بالنواحي الاقتصادية؛ هذا فضلا عن التداعيات على مستوى الامتدادات الإقليمية.
من جهة، يأتي أهم تلك التداعيات، ذلك المتمثل في إعادة خلط الأوراق في ليبيا؛ حيث يشير هذا التقارب إلى اختراق تركي جديد لمجال كان يُعدّ “مغلقا” سابقا، وهو ما قد يزعج بعض القوى الإقليمية الداعمة لحفتر، مثل الإمارات أو روسيا. لكن هذه الخطوة قد تفتح بالمقابل فرصا جديدة لإعادة بناء توافق ليبي شامل، قائم على شراكات مرنة وغير انحيازية.
من جهة أخرى، الضغط على حكومة الوحدة الوطنية في غرب ليبيا، تلك التي يترأسها عبد الحميد الدبيبة؛ فمن المرجح أن تثير الاتفاقيات نوعا من القلق لدى حكومة طرابلس التي كانت تعوّل على احتكار العلاقة مع أنقرة كورقة تفاوضية؛ وقد تعتبر أن تركيا بدأت تتعامل مع شرق ليبيا كندّ لها، وليس كمجرد خصم سياسي. ومع ذلك، فإن هذا التقارب لا يعني بالضرورة تخلّي تركيا عن حلفائها في الغرب الليبي، بل هو توسيع لنطاق علاقاتها.
من جهة أخيرة، تعزيز الدور التركي في رسم مستقبل ليبيا؛ فمع دخولها إلى الشرق الليبي، تصبح تركيا في موقع أفضل للمساهمة في رسم ملامح المرحلة المقبلة في ليبيا، خصوصا إذا توافقت الأطراف على انتخابات عامة أو حكومة موحدة. كما أن تنويع تركيا لشراكاتها الليبية يمنحها مرونة في التعامل مع تغيرات الميدان الليبي.
أضف إلى ذلك، الانعكاسات المحتملة على ملف التعاون الأمني؛ فإذا تطور التعاون التركي مع حفتر، فقد يشمل لاحقا التعاون في ملفات أمنية حساسة، كإخراج المرتزقة الأجانب، أو مراقبة الحدود، أو حتى إعادة هيكلة بعض الوحدات العسكرية؛ وهو ما قد يُحدث تحولا جوهريا في التوازنات الأمنية داخل البلاد.
في هذا الإطار.. يبدو أن المصالح الاقتصادية والسياسية هي التي قادت الطرفين، أنقرة وقيادة الجيش الليبي، إلى هذا التقارب، بعد سنوات من العداء والتجاذبات بين الطرفين. كما أن التحوّلات الإقليمية والتهدئة الدولية للملف الليبي، سمحت بإعادة تشكيل العلاقات وفق منطق براغماتي يقوم على المصالح لا المبادئ.
لكن نجاح هذا المسار سيعتمد -في نهاية المطاف- على مدى استدامة التهدئة في ليبيا، ومدى قدرة كل طرف على ترجمة الاتفاقات إلى مشاريع فعلية تخدم الليبيين، وليس فقط النخب السياسية. كما أن ردود فعل القوى الدولية والإقليمية ستلعب دورا مهما في تحديد المسار المقبل لهذا التقارب غير المسبوق.