من أبرز القصص، التي وردت في القرءان الكريم، عن الأنبياء الذين دعوا أقوامهم إلى التوحيد والعدل وترك الفساد، يأتي حوار النبي لوط -عليه السلام- مع قومه.
يُعد هذا الحوار، من أكثر الحوارات التي تعكس مواجهة شديدة بين الحق والباطل، بين نبي مخلص يحمل رسالة التوحيد والفضيلة، وقوم غارقين في الفسق والفجور.
وقد أرسل الله لوطا إلى قومه لدعوتهم إلى عبادة الله، وترك الفاحشة التي كانوا يمارسونها بشكل علني، إضافة إلى أعمال أخرى من الظلم والعدوان.
ورغم أن نبي الله لوط، حاور قومه بشفقة ونصحهم بعدم ارتكاب الفواحش، والعودة إلى الفطرة السليمة؛ إلا أنهم استهزءوا به ورفضوا دعوته، بل وصل بهم الأمر إلى تهديده وأسرته بالإخراج من المدينة.
أسلوب الحوار
كانت دعوة النبي لوط -عليه السلام- لقومه موجهة لترك الفاحشة، والعودة إلى الطريق السليم، وهو التوحيد واتباع الفضيلة. لقد بدأ حواره معهم بإرشادهم إلى الابتعاد عن فعلاتهم السيئة، والتذكير بأن الله خلق الإنسان بفطرة سوية. يقول تعالى في سورة الأعراف: “وَلُوطًا إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦٓ أَتَأۡتُونَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنۡ أَحَدٖ مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٭ إِنَّكُمۡ لَتَأۡتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهۡوَةٗ مِّن دُونِ ٱلنِّسَآءِۚ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمٞ مُّسۡرِفُونَ” [الأعراف: 80-81].
في هذا الحوار، يبدأ لوط الحوار مع قومه بأسلوب مباشر، متسائلا عن سبب ارتكابهم للفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين؛ خاصةً أن تلك الفاحشة تمثل تعديا على الفطرة الإنسانية السليمة، وهي فاحشة الشذوذ الجنسي بين الرجال (إتيان الرجال). وبتلك الكلمات يوضح لوط، مدى إسراف قومه وانحرافهم عن الطريق المستقيم؛ إذ الإسراف دلاليا هو “تجاوز الحد المقبول إنسانيًا”.
وهنا، وكما توضح الآية الكريمة، فقد كان تساؤل لوط -عليه السلام- هو -في حقيقته- مقدمة في محاولته إصلاح قومه، ودعوتهم إلى الكف عن التعدي على “الفطرة”، التي فطر الله الناس عليها. يقول عزَّ وجل: “أَتَأۡتُونَ ٱلذُّكۡرَانَ مِنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٭ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُمۚ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمٌ عَادُونَ” [الشعراء: 165-166].
والمثير للانتباه والتأمل في آن، أن ردود فعل قوم لوط على دعوته، تمثلت في الرفض والاستهزاء؛ بل وازدادوا إصرارا على ارتكاب الفاحشة وعدم الاستجابة للنصيحة. يقول الله عزَّ من قائل، عن جوابهم على دعوة لوط عليه السلام: “وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوۡمِهِۦٓ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ أَخۡرِجُوهُم مِّن قَرۡيَتِكُمۡۖ إِنَّهُمۡ أُنَاسٞ يَتَطَهَّرُونَ” [الأعراف: 82].
يعني هذا -في ما يعنيه- أن إجابتهم تمثلت في اقتراح إخراج لوط ومن معه من المؤمنين من المدينة، لأنهم “أُنَاسٞ يَتَطَهَّرُونَ”؛ بما يدل على الاستهزاء بالقيم والأخلاق الفاضلة. هذا الرد يعكس مدى انغماسهم في الفساد، إلى حد أنهم باتوا ينكرون على من يدعو إلى الطهارة والعفة.
دلالات الحوار
مثله في ذلك، مثل أنبياء الله نوح وهود وصالح وشعيب، عليهم السلام جميعا، كان نبي الله لوط عليه السلام يُحاول إقناع قومه بأدلة منطقية، مؤكدا لهم أنه لا يطلب منهم أجرا على دعوته، وإنما هو يُقدم لهم النُصح؛ كما ورد على لسانه في قوله سبحانه: “إِذۡ قَالَ لَهُمۡ أَخُوهُمۡ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ ٭ إِنِّي لَكُمۡ رَسُولٌ أَمِينٞ ٭ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ ٭ وَمَآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٍۖ إِنۡ أَجۡرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ” [الشعراء: 161-164].
وهنا، يمكن أن نأتي على ذِكر أهم دلالات هذا الحوار.. عبر أكثر من جانب:
من جانب، رغم أن لوط -عليه السلام- كان يدعو قومه إلى تقوى الله وإطاعة رسالته، ويذكرهم بأنه رسول أمين أرسله الله إليهم لهدايتهم، وليس لأغراض شخصية؛ لكن قومه استمروا في إنكار دعوته، بل وتصاعدت مواقفهم العدائية تجاهه. إذ، لم يتوقف القوم عند حدود الاقتراح “أَخۡرِجُوهُم مِّن قَرۡيَتِكُمۡۖ إِنَّهُمۡ أُنَاسٞ يَتَطَهَّرُونَ” [الأعراف: 82]؛ ولكن وصل الأمر بالتهديد بذلك، كما في قوله تعالى: “قَالُواْ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ يَٰلُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُخۡرَجِينَ” [الشعراء: 167]. فما كان من لوط إلا أن دعا ربه بالنجاة؛ كما في قوله سبحانه: “قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ ٱلۡقَالِينَ ٭ رَبِّ نَجِّنِي وَأَهۡلِي مِمَّا يَعۡمَلُونَ” [الشعراء: 168-169].
من جانب آخر، يُظهر لنا القرءان الكريم محاولات لوط -عليه السلام- في منع قومه من ارتكاب الفاحشة، حتى عندما جاءه الملائكة في صورة رجال. فقد حاول إقناعهم بعدم الاعتداء على ضيوفه، وحثهم على ترك هذا الفعل القبيح، قائلا لهم بأن هؤلاء الضيوف مكرمون، وعليهم ألا يعتدوا عليهم.
يقول عزَّ وجل: “وَلَمَّا جَآءَتۡ رُسُلُنَا لُوطٗا سِيٓءَ بِهِمۡ وَضَاقَ بِهِمۡ ذَرۡعٗا وَقَالَ هَٰذَا يَوۡمٌ عَصِيبٞ ٭ وَجَآءَهُۥ قَوۡمُهُۥ يُهۡرَعُونَ إِلَيۡهِ وَمِن قَبۡلُ كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ هَٰٓؤُلَآءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطۡهَرُ لَكُمۡۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُخۡزُونِ فِي ضَيۡفِيٓۖ أَلَيۡسَ مِنكُمۡ رَجُلٞ رَّشِيدٞ” [هود: 77-78]. هنا، نرى أن لوطا -عليه السلام- يعرض عليهم بناته للزواج الطاهر بدلا من ارتكاب الفاحشة؛ لكنه -في الوقت نفسه- يعبر عن ضيقه الشديد من عنادهم وإصرارهم على فعل المنكر.
من جانب أخير، بالرغم من كل تلك المحاولات المتكررة من لوط -عليه السلام- لإبعاد قومه عن الفاحشة، وتوجيههم إلى الطريق المستقيم؛ إلا أن قومه تحدوه وطالبوه بجلب العذاب الذي كان يتوعدهم به، كأنهم يسخرون منه ومن رسالته. يقول عزَّ من قائل: “وَلُوطًا إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦٓ إِنَّكُمۡ لَتَأۡتُونَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنۡ أَحَدٖ مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٭ أَئِنَّكُمۡ لَتَأۡتُونَ ٱلرِّجَالَ وَتَقۡطَعُونَ ٱلسَّبِيلَ وَتَأۡتُونَ فِي نَادِيكُمُ ٱلۡمُنكَرَۖ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوۡمِهِۦٓ إِلَّآ أَن قَالُواْ ٱئۡتِنَا بِعَذَابِ ٱللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ” [العنكبوت: 28-29]
في هذا الموقف، يكشف نبي الله لوط، عن فساد قومه على المستويات الاجتماعية والأخلاقية، حيث لم يقتصر فسادهم على الفاحشة “أَئِنَّكُمۡ لَتَأۡتُونَ ٱلرِّجَالَ”؛ بل امتد إلى قطع الطريق والإفساد في المجتمع “وَتَقۡطَعُونَ ٱلسَّبِيلَ وَتَأۡتُونَ فِي نَادِيكُمُ ٱلۡمُنكَرَۖ”. ومع ذلك، فإن ردهم الوحيد كان استهزاءً به وطلبهم أن يأتيهم بالعذاب إذا كان صادقا. إلا أنه -عليه السلام- عندما أدرك أن قومه لن يتوبوا، دعا الله أن ينصره على القوم المفسدين؛ كما في قوله سبحانه، في الآية التالية مباشرة: “قَالَ رَبِّ ٱنصُرۡنِي عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡمُفۡسِدِينَ” [العنكبوت: 30].
في هذا الإطار.. كان العذاب والهلاك هو النهاية المنطقية لهذا الحوار بين نبي الله لوط وقومه؛ كما ورد في قوله تعالى: “فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّيۡحَةُ مُشۡرِقِينَ ٭ فَجَعَلۡنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمۡطَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ حِجَارَةٗ مِّن سِجِّيلٍ ٭ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّلۡمُتَوَسِّمِينَ ٭ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٖ مُّقِيمٍ ٭ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ” [الحجر: 73-77]
وللحديث بقية.