رؤى

تسخير “الشَّمْس وَالْقَمَر”.. ودلالة “الأزمنة” القرآنية

إذا كان مفهوم “التسخير” بوصفه مصطلحا قرآنيا، هو مفهوم رئيس يُحدد علاقة الإنسان بالأرض (الطبيعة)؛ وذلك من خلال ارتباط اللفظ في مواقع وروده، في آيات التنزيل الحكيم، ليس فقط بالظواهر الطبيعية في الكون؛ ولكن أيضًا بعلاقة الإنسان بهذه “الظواهر”. وإذا كانت الأرض أو الطبيعة هي مجال التدخل الإنساني وموضوع فعله.. فإن في استعمال التنزيل الحكيم تعبير السُخرة للدلالة على هذه العلاقة، ما يؤكد ـ بشكل قوي الدلالة ـ على أن الإنسان هو القادر والمسئول عن تغيير واقعه وتحقيق أهدافه.

وهنا تتداعى التساؤلات متتالية: لماذا يُسخِّر الله سبحانه وتعالى للإنسان كثير من ظواهر هذا الكون؟ وما فائدة إخبار المولى سبحانه لنا بأن هذه الظواهر الطبيعية (الشمس والقمر والليل والنهار.. وغيرها) هي مُسخَّرة للإنسان؟ وما مغزى هذا الأمر؟

الشمس والقمر

في البحث حول ملامح مفهوم التسخير في كتاب الله الكريم وصلنا – خلال الأحاديث السابقة- إلى أن تسخير الأشياء والظواهر الكونية يأتي لمصلحة الإنسان؛ من خلال “جريان الأشياء والظواهر على عادة مضطردة، بطريقة معروفة أو تمكن معرفتها”. وضمن هذه الظواهر الكونية، التي سَخَّرَها الله سبحانه وتعالى، يأتي تسخير “الشَّمْس وَالْقَمَر” الذي سنحاول تناوله هنا في حديثنا هذا.

والواقع أن اهتمامنا بمسألة تسخير “الشَّمْس وَالْقَمَر”، وتخصيص حديث خاص به؛ لا يعود فقط إلى أن تسخير “الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ” إشارة إلى إعداد الكون كميًا ليُناسب وجود الإنسان؛ مثلما أن تسخير “اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ” إشارة إلى إعداده كيفيًا لذلك. هذا فضلًا عن الارتباط البَيِّن في التنزيل الحكيم – في أكثر من موضع- بين خلق “السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ”، وتسخير “الشَّمْس وَالْقَمَر” ولكن إضافة إلى هذا وذاك لارتباط تسخيرهما بـ “أَجَلٍ مُسَمًّى”.. وهو الارتباط الذي ورد في “أربعة” مواضع في آيات التنزيل الحكيم.

ولنا هنا أن نلاحظ أن تسخير “الشَّمْس وَالْقَمَر” لا يتوقف عند حدود دوام حركة كل منهما والاستمرار فيها؛ ولكنه يتجاوز ذلك إلى الهدف الإلهي من هذا التسخير.

 يقول عزَّ وجل: “هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ” [يونس: 5]. إذ هاهنا يتبدى الهدف الإلهي بوضوح، من حيث إن الله سبحانه وتعالى “هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا”. فإذا كانت هذه “الشَّمْسُ” قد جعلها الله سبحانه “ضِيَاءً” فإنه تعالى قد جعل “الْقَمَرَ نُورًا”،  وأيضًا “َقَدَّرَهُ مَنَازِلَ” لأجل أن يعلم الناس “عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ”.

خَلَقَ وسَخَّرَ

أما عن الارتباط بين “خَلَقَ”، و”سَخَّرَ” فيتبدى بوضوح عبر السؤال القرآني وإجابته، حول من: “خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ” وحول من: “سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ” وذلك في قوله تعالى: “وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّا يُؤْفَكُونَ” [العنكبوت: 61]. وهنا لنا أن نلاحظ كيف ربط -في سياق الآية الكريمة- بين “خَلَقَ” و”سَخَّرَ”، عبر حركة العطف بـ”الواو”.

ولعل هذا الربط نفسه، ما يُؤشر إلى أن تسخير “الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ” له ارتباط بخلق “السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ”؛ بما يعني أن سنن التسخير إنما تأتي في إطار السنن الإلهية ذات الصلة بالكون. ولأن هذه الأخيرة، كما قلنا من قبل ونقول دائمًا، مطلوب من الإنسان معرفتها والعمل في إطارها؛ لذلك يُصبح من الضروري، بالنسبة إلى الإنسان الذي جعله سبحانه وتعالى “فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً” [البقرة: 30]، معرفة سنن التسخير هذه، والعمل وفق إطارها، بهدف القيام بالمهمة التي استخلفه الله تعالى لأجلها.

بعبارة أخرى، بما أن هناك الارتباط بين سنن التسخير وسنن الخلق، في آيات التنزيل الحكيم؛ لذا، يُصبح من الضروري التأكد من أن تسخير الكون، أي تسخير “مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ”، إنما كان للإنسان لأجل وجوده؛ بما يعني أن الكون قد بُني بالقدرة الإلهية على قوانين (سنن) كمية وكيفية تناسب تمامًا الكيان الإنساني في وجوده ابتداء؛ فكأنما الكون قد صُنع لاستقبال الإنسان.

أما عن تسخير “الشَّمْس وَالْقَمَر”، وارتباط تسخيرهما بـ “أَجَلٍ مُسَمًّى”.. لنا أن نلاحظ أن هذا الارتباط، وإن كان يأتي في “أربعة” مواضع في آيات التنزيل الحكيم؛ إلا أنه يأتي في “واحد” من هذه المواضع مصحوبًا بحرف الجر “إلى” في حين يأتي في المواضع “الثلاثة” الأخرى مصحوبًا بحرف الجر “اللام”.. وهو ما يُثير تساؤلات متعددة؛ أهمها: ما يتعلق بالاختلافات، من حيث الدلالة، بين الحرفين، وبين دخول كل منهما على الاصطلاح القرآني “أَجَلٍ مُسَمًّى”، في المواضع التي تمت الإشارة إليها؛ وغير ذلك من تساؤلات.

وسوف نقتصر في حديثنا هنا، على الموضع الأول الذي ورد فيه التعبير القرآني: “إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى”، على أن نتناول في حديثنا القادم المواضع “الثلاثة” الأخرى.

أفعال وأزمنة

في الموضع الأول “إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى”، يقول سبحانه وتعالى: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ” [لقمان: 29] وهنا لنا أن نلاحظ أكثر من جانب، في إطار محاولة تدبر هذه الآية الكريمة..

فمن جانب، لابد من الانتباه إلى حركة العطف الثلاثية، التي وردت في سياق الآية الكريمة: “يُولِجُ… وَيُولِجُ… وَسَخَّرَ”، بما يعني أن ثمة ارتباط بينها جميعًا، ولذلك جاء تصدير الآية بـ “أَلَمْ تَرَ”، فضلًا عن حرف التوكيد “أَنَّ” الذي ورد مرتين في الآية “أَنَّ اللَّهَ… وَأَنَّ اللَّهَ”؛ بما يؤشر إلى الأمر الإلهي في تأمل وتدبر هذه “الآيات” الإلهية في الكون، عبر “الرؤية” الاستدلالية. ثم جاء سبحانه بالليل أولًا قبل أن يأتي ذكر النهار، لأن الليل أسبق من النهار في الوجود، وأن الليل هو “الأصل”؛ بدليل قوله سبحانه: “وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ” [يس: 37]؛ أي إذا “سُلخ” النهار من الليل، تكون النتيجة “فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ”.

من جانب آخر، فقد ورد في سياق الآية الكريمة “يُولِجُ” في زمن الفعل المُضارع، لأن إيلاج الليل في النهار، وإيلاج النهار في الليل، يحدث بشكل مستمر ويتجدد في كل لحظة؛ بل، إن ورود “يُولِجُ… وَيُولِجُ…”، كحركة عطفية، في زمن الفعل المُضارع، يدل، ولعل هذا هو الأهم، على “التجدد المستمر دون انقطاع”. أما ورود “سَخَّرَ” في زمن الفعل الماضي، فذلك لأن التسخير أمر إلهي حدث منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى “الشَّمْس وَالْقَمَر”، وسخرهما بهذه الحركة المستمرة “الدءوبة” التي نتابعها يوميًا؛ وبالتالي، فهو “قانون” لا تعدد فيه ولا تجدد، وإنما التعدد والتجدد في آثاره. ومن ثم، لنا أن نتأمل “لماذا” وردت حركة العطف الثلاثي “يُولِجُ… وَيُولِجُ… وَسَخَّرَ”، في سياق الآية الكريمة، رغم الاختلاف في الأزمنة.

من جانب أخير، إن الله تعالى يقول، في هذه الآية: “وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ”، ولم يقل: “وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ” كما في آيات سابقة؛ لأن سياق الآية [لقمان: 29]، هنا، يتعلق بـ “مًطلق” القدرة الإلهية؛ بينما تأتي “وَسَخَّرَ لَكُمْ”، في سياق تعداد النعم الإلهية، الذي يَرِد فيه “لَكُمْ”.. كما في قوله سبحانه، في نفس السورة، سورة لقمان: “أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ” [لقمان: 20]؛ وأيضًا، كما في قوله تعالى: “وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ” [إبراهيم: 33].

ولكن، ماذا عن قوله سبحانه وتعالى: “كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى”؛ وماذا عن ارتباط تسخير الشمس والقمر بـ”الأجل المُسمى”؛ والأهم، ما هو الأجل المُسمى، ودلالته القرآنية(؟)… وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock