بعد هجوم على مجموعة سياح، أسفر عن سقوط 26 قتيلا، في الجزء الخاضع لسيطرة الهند في إقليم كشمير، تصاعد التوتر بين الجارتين الهند وباكستان؛ خاصةً بعد إعلان “جبهة المقاومة” (TRF)، التي يُعتقد أنها فرع من جماعة “لشكر طيبة” الباكستانية، مسئوليتها عن الهجوم. وأعلنت الهند عن تعليق العمل بمعاهدة تقاسم مياه “نهر السند”، التي مضى عليها أكثر من “ستة” عقود، وإغلاق المعبر الحدودي البري الوحيد بين الجارتين. إلا أن إسلام آباد رفضت تعليق معاهدة تقاسم المياه، مؤكدة أن أي محاولة لوقف أو تحويل مسار المياه، سيتعبر عملا حربيا.
ومع إعلان الهند عن تعليق العمل بـ”معاهدة مياه نهر السند”، الموقّعة عام 1960، يدخل التوتر بين نيودلهي وإسلام آباد منعطفا جديدا يحمل تداعيات بيئية وجيوسياسية خطيرة، من شأنها أن تؤجج الصراع وتفتح الباب أمام سيناريوهات متعددة، تتراوح بين التصعيد العسكري المحدود، وصولا إلى إعادة رسم طبيعة العلاقات بين البلدين.
مشكلة كشمير
الهجوم على السياح في كشمير ليس حدثا معزولا؛ بل هو جزء من مشهد معقد تتداخل فيه الأبعاد الأمنية والطائفية والجيوسياسية. فإقليم كشمير، الذي تطالب باكستان بالسيادة الكاملة عليه، يشهد توترات دائمة بين القوات الهندية والجماعات المسلحة الانفصالية. وغالبا ما تتهم الهند باكستان بدعم هذه الجماعات وتوفير الملاذ الآمن لها داخل أراضيها، بينما ترد إسلام آباد بالنفي وتصف المقاتلين بأنهم “مناضلون من أجل الحرية”.
واللافت، أن الحكومة الهندية، بقيادة حزب “بهاراتيا جاناتا” القومي، تواجه ضغوطا داخلية كبيرة للرد على الهجوم الأخير بقوة، خاصةً مع اقتراب انتخابات محلية مهمة في عدد من الولايات. وقد أصبح الأمن، وخاصة في كشمير، أحد القضايا الرئيسة في الخطاب السياسي الداخلي، ما يضع رئيس الوزراء ناريندرا مودي في موقع يتطلب منه إظهار الحزم.
من هذا المنطلق، لا يُستبعد أن تلجأ الهند إلى ما يسمى بـ”الضربات الجراحية”، كما فعلت في عامي 2016 و2019، بعد هجمات مشابهة، حيث شنت غارات محدودة على معسكرات مفترضة للمسلحين داخل باكستان. إلا أن مثل هذه التحركات، حتى وإن كانت محدودة، قد تجر ردودا من الجانب الباكستاني وتؤدي إلى تبادل نيران عبر الحدود.
ضغط استراتيجي
ضمن الردود غير العسكرية، أعلنت الهند عن نيتها تعليق العمل بمعاهدة مياه نهر السند، وهي خطوة تحمل دلالات استراتيجية عميقة. فهذه المعاهدة التي وقِّعت بوساطة البنك الدولي، في عام 1960، تنظم تقاسم مياه نهر السند وروافده بين الهند وباكستان، وتُعد من أكثر المعاهدات المائية صمودا في التاريخ، حيث استمرت سارية المفعول، حتى خلال الحروب التي اندلعت بين الطرفين.
لكن قرار الهند بتجميد المعاهدة – أو على الأقل البدء بإجراءات فنية وتقنية لتعليق العمل بها أو تعديلها – يمثل تصعيدا خطيرا، ويضرب واحدة من آخر قنوات الثقة بين البلدين. إذ تعتمد باكستان على مياه نهر السند لري أراضيها الزراعية وتلبية احتياجاتها المائية الأساسية، وأي تقليص في حصتها المائية قد يؤدي إلى أزمة إنسانية واقتصادية حادة، خصوصا في ظل التغير المناخي وشحّ المياه المتزايد.
احتمالات مستقبلية
أمام هذا المشهد المعقّد، تتراوح السيناريوهات المستقبلية بين احتمال التصعيد المحدود، وصولا إلى اندلاع أزمة شاملة؛ لكن هناك أيضا احتمال للتهدئة في حال تدخلت أطراف دولية أو إقليمية لاحتواء الوضع.
فمن جانب، هناك احتمال التصعيد العسكري المحدود؛ وهذا السيناريو يقوم على فرضية أن الهند ستنفذ ضربات محدودة ضد أهداف في باكستان، سواء عبر الطيران أو العمليات الخاصة، على غرار ما حصل في عام 2019 بعد هجوم “بولواما”. في المقابل، قد ترد باكستان بنيران مدفعية أو هجمات رمزية لردع الهند دون الانجرار إلى حرب شاملة. ورغم أن هذا السيناريو لا يؤدي إلى اندلاع حرب كبرى، فإنه يعمّق انعدام الثقة ويزيد من التوتر الحدودي، ويخلق بيئة خصبة للتطرف والعنف في كشمير.
من جانب آخر، هناك احتمال التصعيد السياسي والاقتصادي؛ إذ قد تكتفي الهند بتصعيد سياسي، عبر تعليق المحادثات الثنائية أو تخفيض التمثيل الدبلوماسي، إلى جانب تعليق المعاهدة المائية كأداة ضغط. في هذا الإطار، قد تسعى نيودلهي إلى فرض واقع جديد على الأرض من خلال تكثيف مشاريع السدود وتحويل المياه، الأمر الذي سيعتبره الجانب الباكستاني بمثابة “عدوان مائي”، وقد يرد عليه بطرق غير تقليدية، بما في ذلك تفعيل أدوات الضغط في المحافل الدولية.
ومن جانب أخير، هناك احتمال العودة إلى الحوار بضغوط دولية؛ حيث من غير المستبعد أن تتدخل قوى دولية، مثل الولايات المتحدة أو الصين أو الاتحاد الأوروبي، للضغط على الطرفين من أجل احتواء الأزمة، خاصةً في ظل المخاوف من انزلاق الوضع نحو “مواجهة نووية” غير محسوبة. كما أن البنك الدولي قد يلعب دورا في إعادة الجانبين إلى طاولة التفاوض حول معاهدة المياه، لا سيما أن المؤسسة الدولية تُعد راعيةً للمعاهدة منذ توقيعها.
أبعاد دولية
رغم أن احتمال “حرب مفتوحة”، بين الهند وباكستان، هو احتمال ضعيف نظرا لتكلفة الحرب الهائلة؛ إلا أن أي خطأ في الحسابات أو هجوم كبير مستقبلي، قد يخرج الأمور عن السيطرة.
في هذه الحالة، فإن أي مواجهة شاملة بين الجارتين ستُعد كارثية على المستوى الإنساني والاقتصادي، وقد تشمل استخدام أسلحة استراتيجية، الأمر الذي يثير القلق الدولي من “السيناريو النووي”.
يعني هذا – في ما يعنيه- أن الصراع الهندي الباكستاني يتجاوز حدوده الثنائية؛ إذ يؤثر بشكل مباشر على استقرار جنوب آسيا، ويُعد نقطة ارتكاز في التوازنات الإقليمية، لا سيما في ظل “التنافس” الصيني الهندي، و”التقارب” الباكستاني الصيني، فضلا عن العلاقات الاقتصادية والعسكرية المتنامية بين الهند والدول الغربية.
كما أن أي تدهور في العلاقة بين الهند وباكستان سيؤثر على مشاريع البنية التحتية الكبرى، مثل مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، وخطوط التجارة الإقليمية، إلى جانب إمكانية تزايد الهجمات المتطرفة التي قد تمتد إلى دول الجوار.
في هذا الإطار.. يمكن القول إن ما جرى في كشمير، ليس سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من التوترات بين الهند وباكستان، لكنها تأتي في توقيت بالغ الحساسية، حيث تتقاطع الضغوط الداخلية في كلا البلدين مع التحديات البيئية والاقتصادية المتزايدة. وبالرغم من أن ردود الفعل المتوقعة قد تتراوح بين التصعيد العسكري المحدود والتصعيد السياسي، فإن تعليق معاهدة مياه السند يضع العلاقة بين البلدين على مسار أكثر خطورة، حيث تتجاوز الخلافات الحدودية لتطال الأمن المائي والبيئي.
لذلك، فإن الحكمة تقتضي من الطرفين العودة إلى الحوار، والابتعاد عن منطق الثأر السياسي، والعمل على بناء آليات جديدة للتعاون الأمني والمائي، مع الانفتاح على وساطات دولية من شأنها إعادة بناء الثقة وتفادي الأسوأ. فجنوب آسيا لا يحتمل حربا جديدة، ولا العالم مستعدّ لتبعات صراع نووي غير محسوب.