رؤى

العلوم الاجتماعية في المنطقة العربية.. بين تغليب اللا منتمين وتغييب المعنى(2- 4)

حوار مطوّل مع الذات

بعد حوار مطوَّل مع الذات.. رأيت أن أكتب هذه الورقة؛ لكي أعرض من خلالها لواحدة من أسوأ أزمات العلوم الاجتماعية في المنطقة العربية. وما أكثر تلك الأزمات! وما أشدها تعقيدا! بعض منها بنيوي عميق، يعود ربما إلى قرنين من الزمان. وبعضها الآخر إجرائيٌ معقد يزعج المشتغلين بتلك العلوم -تقريبا- كل يوم. وبعض ثالث -منها- سلوكي غريب، يلاحظه الواحد منا حتى في نفسه.

اللا معنى

فالمشتغلون بالعلوم الاجتماعية في المنطقة العربية، وبعد أكثر من قرنين من أول تعرُّفٍ على تقاليدها المستوردة، وبالتحديد عندما دخل عبد الرحمن الجبرتي، إلى قلب المجمع العلمي المصري، الذي أسسه نابليون بونابرت في القاهرة في 20 أغسطس 1798، ما زالوا يعيشون حالة من الدهشة؛ إن لم تكن من الفوضى والاحباط. حالة انفصلت فيها الدوال عن الأحوال، والدالات عن المدلولات، والكلمات عن المعاني. وبتعبير مصري دارج أصبحت العلوم الاجتماعية العربية “مبتجمَّعش” لا تنتج معنى. تحكي كثيرا وتَحرُكُ كثيرا وتنفق كثيرا وتخرّج أعدادا غفيرة؛ لكن أغلب ما تنتجه قليل المعنى، إن لم يكن بلا معنى. بات الدال فيها بكل أسف لا يعبِّر عن المدلول. تباعدا أحيانا عن بعضهما بدرجات مذهلة. واسمحوا لي بضرب مثل، بل اثنين. أولهما عن تجربة أكاديمية حيَّة أعرفها. فعندما أسمع دالا أو لفظا يخبرني بوجود “برنامج لدراسات الشرق الأوسط” يفترض ذهني تلقائيا معانٍ محددة. لكن عندما أفتش في المدلول؛ لا أجد للفظ أي معنى، وأنه ليس إلا مجرد كلمة والسلام، حيث لا توجد علاقة بين ما يتضمنه ذلك البرنامج وما يعيشه أو يحتاجه الشرق الأوسط. والمثل الآخر يجسِّده مشروع مقترح لوحدة “للدراسات العربية” في إحدى المؤسسات الأكاديمية العربية. وكأي كلمة يوحي هذا التعبير بتلبية مواصفات بعينها؛ لكن للصدمة والذهول فإنه يستبعد اللغة العربية. فأي دال وأي مدلول هذا؟ وسوف أعود بعد قليل لأقدم أمثلة أخرى لإنتاج اللا معنى، ولتلك العدمية الفكرية التي أنستنا طبيعة وهوية ورسالة العلوم الاجتماعية. لكن ما المعنى – أصلا-  الذي يجب أن تركز عليه العلوم الاجتماعية؟ وما هُويَّة ورسالة تلك العلوم؟

للإجابة على هذا السؤال.. أعود إلى نص موجز؛ لكنه عميق للعبقري السوري عبد الرحمن الكواكبي، يُلخِّص المعنى الأسمى للعلوم الاجتماعية.. وهو مقاومة القهر، كل أشكال القهر. يقول الكواكبي في صفحتي 46 و47 من كتابه الأيقوني “طبائع الاستبداد”:

“إن الاستبداد لا يخشى علوم اللغة، فتلك العلوم التي بعضها يقوّم اللسان أكثرها هزل وهذيان. وهو لا يخاف علوم اللغة إلا إذا كان وراء اللسان حكمة… وكذلك لا يخاف الاستبداد من العلوم الدينية المتعلقة بما بين الإنسان وربه؛ لأنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة، وإنما يتلهَّى بها المتهوِّسون؛ حتى إذا أضاعوا فيها أعمارهم، وصاروا لا يرون علما غير علمهم- أمن الاستبداد منهم كما يؤمن شر السكران إذا خمر. لكن فرائص الاستبداد ترتعد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة العقلية وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع والسياسة المدنية والتاريخ المفصَّل والخطابة الأدبية ونحو ذلك من العلوم التي تكبّر النفس وتوسع العقول وتعرف الإنسان حقوقه وكم هو مغبون فيها! وكيف الطلب؟ وكيف النوال؟ وكيف الحفظ؟”

هذا هو المعنى، الذي كان يجب، وما زال يجب، على كليات العلوم الاجتماعية العربية، أن تنتجه. أن تكون علوم حياة، وليس كما هي اليوم، علوم ميتة أو شبه ميتة. أن يستعملها الناس في حياتهم لا أن يتركوها جانبا. أن تصل إليهم بسهولة وتقترب منهم بيسر بلغة يستوعبونها وبطرق مختارة بعناية، تكلّمهم على قدر أفهامهم. أن تُكبَر نفوسهم، وتوسع عقولهم وتُعرّف الإنسان حقوقه، وكم هو مغبون فيها! وكيف يطلبها؟ وكيف ينالها؟ وكيف يحافظ عليها؟ لكن حال العلوم الاجتماعية العربية بعيد عن ذلك؛ لأنها دخلت في متاهة، لا تبدو لها نهاية، تمزقها بين مجموعة من الأصول الفلسفية الراسخة، وكثير من الممارسات الماسخة، التي لا يمكن أن ينتج عنها شيء سوى اللا معنى. وسأكتفي برصد خمس ملامح لتلك المتاهة.

أولا: العلوم الاجتماعية الراسخة ذات المعنى، علوم انتماء لأنها ببساطة شديدة علوم دولة، أو للدقة علوم وطنية، مهمتها حماية الوطن والارتقاء بالمواطن والانطلاق بالمقام الأول من ثم العودة في المقام الأخير إلى كل ما هو محلي. علوم مهما اختلط دارسوها بالعالم وامتزجوا بأفكاره وتعرفوا على ما فيه، تبقى مهمتها الرئيسية مُنصبَّة على بناء وعي وطني محلي بالذات عميق ومؤصل يتناقله الناس جيلا تلو جيل. أما ما يحدث في كثير من الممارسات العربية للعلوم الاجتماعية فأمر ماسخ على أقل تقدير.

فقد بات مشتغلون كُثُر بتلك العلوم -في المنطقة- يستوردون كل شيء من الخارج، ولا يفكرون في تطويره من الداخل، بدءا من النظريات العلمية والأمثلة التطبيقيةن إلى الكتب المدرسية والمناهج الدراسية، إلى توصيف المقررات وقائمة موضوعات البحوث؛ وصولا إلى لغة التعليم ذاتها.

ويزيد المسخ بلّة.. ذلك اللهاث العجيب، وراء الاعتمادات الأكاديمية الأجنبية، ومعايير الأداء المقتبسة، واستجداء الظهور في قوائم التصنيف الكبرى، التي تتحكم فيها جهات نفعية، تقبع وراء البحار. ناهيك عن استيراد عمالة فكرية أجنبية، قِسمٌ منها غير قادر على فهم الإشكاليات المحلية، والتصدي للقضايا الوطنية.

وعندما تتسبب ممارسة العلوم الاجتماعية، في مثل هذه الصور من الإيذاء، فإنها تصبح علوما بلا معنى.

ثانيا: العلوم الاجتماعية الراسخة، علوم مجتمع واجبها أن تتحداه وتستنهض تفكيره. لكن ليس من حقها أن تتجرأ عليه؛ لتستعديه وتسخِّفه وإلا فعليها السلامة. فالناس أذكياء يراقبون كل شيء، ويتابعون كل شخص بما في ذلك المشتغلين بالعلوم الاجتماعية، ويتحسسون بشدة لما يترامى إليهم؛ إن هدد ثوابتهم وخالف توقعاتهم. وأبسط رد فعل يصدر عنهم، عندما يجدون العلوم الاجتماعية تهدد حياة أولادهم، أن يصفوها باللا معنى.

فهم لا يرسلون أبناءهم لدراسة تلك العلوم؛ إلا لصورة مسبقة لديهم، تفترض أنها علوم صديقة لثقافتهم أمينة على ثوابتهم. فإن تبين لهم أنها تشكك فيها؛ انصرفوا عنها وأغلقوا صفحتها. كما ينتظر الناس من العلوم الاجتماعية، أن تقدم لهم حلولا تشبههم بمرجعيات تناسبهم، وليس حلولا بمرجعيات مستعارة، تنقل بالكاربون من الخارج البعيد، قبل أن تهتم أولا بالفهم الصبور للداخل القريب. لكن ممارسات عديد من كليات العلوم الاجتماعية العربية، تشير إلى عكس ذلك. تشير إلى أنها بنت وعيا زائفا لمَّا استسلمت للإمبريالية المعرفية، فدخلت في غيبوبة فصلتها عن مجتمعاتها، وجعلتها تسرف في إنتاج اللا معنى.

ثالثا: العلوم الاجتماعية الراسخة ذات المعنى تنتج ما يلفت انتباه صناع القرار، وما يفهمه الناس بأبجدية يعرفونها وليس بلغات دخيلة عليهم. صناع القرار لا يحبون التقعير، ولا وقت لديهم للتنظير، وطبيعة مهامهم عملية للغاية، وهي أمور لا يتدرب عليها معظم المشتغلين بالعلوم الاجتماعية العربية. أما عامة الناس فالمدخل إليهم لن يكون إلا عبر آذانهم. ولهذا تهمهم مسألة اللغة. ومسألة اللغة جد خطيرة، وجد مهمة لا يمكن التعامل معها باستخفاف أو تصويرها على أنها مجرد تدفق لذبذبات نغمية، تربط من يتكلم بمن يسمع؛ لأن اللغة ليست مجرد وسيلة اتصال، وإنما مخزن كامل للوعي. وبما أن الوعي هو صناعة العلوم الاجتماعية؛ فإن تغييب اللغة العربية تماما، في بعض كليات العلوم الاجتماعية، وتهميشها في أخرى أنتج وعيا زائفا وأفرز كثيرا من التشوهات، بل واللا معنى خاصةً، وأن ذلك التهميش يجري تبريره بحجة يعتقد من يستعملها أنه يفحم مستمعيه، وهي اللحاق بالمتقدمين. وتلك قمة اللا معنى. فمن يدفعه تعلّم العلوم الاجتماعية إلى الخجل من لغته؛ سيخجل تباعا من ثقافته، ثم من هويته وكينونته ليصبح هو والعدم سواء.

رابعا: العلوم الاجتماعية الراسخة ذات المعنى علوم ناطقة، جريئة وشجاعة لا مكان فيها للجبناء والصامتين والمتوارين والمتخاذلين، ممن يلتزمون الحيطة بهوس، والسكوت بشكل مرضي. هي علوم رأي وقيم لا يمكن للمشتغلين فيها أن يعيشوا حياتهم بلا لون أو طعم أو رائحة. لكن في نفس الوقت، وبرغم الحاجة إلى الشجاعة والإقدام، لا ينبغي أن تنقلب كليات العلوم الاجتماعية، إلى ساحات يرعى فيها الحمقى والمتهورون. هي علوم تحتاج إلى الشجاعة الممزوجة بالمسئولية، والمواقف الصريحة المقرونة بالاتزان، والاتجاهات المعلنة.. شريطة أن تكون منطقية. وهذه الشجاعة والصراحة والجرأة ليست عيوباً في ممارسة تلك العلوم، بل إن ذلك هو طبعها. فهي علوم لا تحتمل التقية أو سد الفم؛ لأن التقية والسكوت فيها خيانة لا تنتج شيئا إلا اللا معنى. وأستدعي هنا ذلك المصطلح البديع الذي يستعمله أخوتنا الكرام في السودان عن “الكلام الساكت” ذلك الكلام الذي يتواصل ويتدفق دون أن يكون له معنى أو قيمة أو مدلول. كلام يستطيع من يتقن تفانينه، أن يتفاصح ويتحذلق دون أن يُفهم منه شيئا. وهذا الكلام الساكت لا ترضى عنه العلوم الاجتماعية الراسخة أبدا. أما الممارسات الماسخة فتعشق الكلام الساكت العقيم عديم المعنى.

العلوم الاجتماعية الراسخة ذات المعنى، علوم جسارة وحجة تشترط فيمن يرغب في العمل بها أن يفصح عن رأيه، وأن يكون له موقفا وألا يكتفي بالفرجة، أو أن يعيش بطريقة wait and see، أو أنا وبعدي الطوفان أو “معاهم معاهم عليهم عليهم،” وإلا لأصبح ببساطة مشتغل لكنه غير منتم.  فالاشتغال بالعلوم الاجتماعية ليس وظيفة وإنما مهمة. والمشتغل بها ليس موظفا كل ما يعنيه أن يستوفي شروط الترقية وينقذ لقمة العيش. فهذه أمور فردية مهمة؛ لكنها لا يمكن أن تعطي للعلوم الاجتماعية معنى، ومن يركز بالكامل عليها يدخل، برغم حسن نواياه أحيانا، في دائرة اللا منتمين.

خامسا: تبدأ العلوم الاجتماعية الراسخة ذات المعنى من الفلسفة وتنتهي بها وإليها. لكن ما حدث بالتدريج عبر عقود في عديد من كليات العلوم الاجتماعية العربية، ثم تسارع في السنوات الأخيرة، أنها راحت تحت ضغط التبعية والتقليد وبمزاعم اللحاق والتجديد تنصرف عن الأصول الفلسفية؛ لتنشغل بالأدوات على حساب الغايات، ولتعتني بما أسميه مجازا “ميكانيكا العلوم الاجتماعية” على حساب جوهرها القيمي الخالص، أو ما أسميه “باستاتيكا العلوم الاجتماعية”. نسيت الإنسان لتنشغل بالآلة. ومصيبة العلوم الاجتماعية العربية، في هذا الصدد أن مسيرها يختلف عن مسار العلوم الاجتماعية الغربية التي تحاول أن تقلدها وتتشبه بها. فعلى عكس العلوم الاجتماعية الغربية، لم تصل العلوم الاجتماعية العربية بعد إلى غايتها، ولم تقدم شيئا يذكر، يساعد الإنسان. كما ذهب الكواكبي، على تكبير نفسه وتوسيع عقله وطلب ونيل وحفظ حقوقه، بل تخلت عن هذا كله وراحت تعطي مساحات متزايدة للأدوات والتقنيات؛ لتعتني بالحوسبة والرقمنة والمنصات المعملية وبرمجيات التذاكي المصطنع، والنماذج اللغوية الكبيرة وغير ذلك من مظاهر الأتمتة التي تنذر بتحول عدد كبير من المشتغلين بها إلى ميكانيكيّ آلات ومجمعي أرقام وصناع قوالب، يركزون على مكملات المكياج العلمي؛ لتضيع الجذور الفلسفية للعلم الاجتماعي، وتضيع معها عملية انتاج المعنى. فكل هذه الأدوات الجديدة مُهمّة بلا شك؛ لكن بدون تأطيرها فلسفياً ستتحول إلى أدوات عديمة القيمة لا تنتج غير اللا معنى.

ومثلما جرى قذف المجتمعات العربية بسرعة وقسوة إلى ما بعد الحداثة، دون أن تمر على مهل بالحداثة حتى تفهمها وتهضمها، يجري قذف العلوم الاجتماعية العربية حاليا بطريقة ركيكة غير مدروسة فلسفيا إلى تطبيقات ما بعد الحداثة، ليس فقط دون أن تستوعب الحداثة أولا، بل وحتى دون أن تتخلص من البداوة المعرفية، وضيق الأفق المروِّع الذي ما زال مسيطرا على طريقة تفكير قطاعات ليست قليلة من المشتغلين العرب بتلك العلوم. وكل ذلك يغرقها في انتاج اللا معنى.

د.إبراهيم عرفات

أستاذ العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock