من المقرر أن تنعقد قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، في مدينة لاهاي الهولندية خلال الفترة من 24 إلى 26 يونيو الجاري، وسط تحديات جيوسياسية واقتصادية متشابكة، أبرزها استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، وتصاعد التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والخلافات حول تمويل الحلف. ومن ثم، تُعد هذه القمة اختبارا حاسما لوحدة الحلف وقدرته على التكيف مع المتغيرات العالمية. والمثير، أن هذه هي القمة الأولى للأمين العام الجديد للحلف مارك روته، الهولندي الأصل ورئيس وزراء هولندا السابق؛ وأيضا هي القمة الأولى للحلف في ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الثانية.
وبينما من المتوقع أن تسفر القمة عن قرارات مُهمّة، حول تعزيز الدفاع الأوروبي ودعم أوكرانيا، فإن الخلافات الأمريكية الأوروبية حول التمويل والرسوم الجمركية، قد تترك بعض التوترات. ومع ذلك فإن الحاجة إلى التضامن في مواجهة التهديدات المشتركة قد تدفع الأطراف إلى تجاوز خلافاتهم -ولو مؤقتا- لإظهار جبهة موحدة.
مستقبل الحلف
يشهد العالم اليوم تحولات جيوسياسية كبرى، تُعيد تشكيل النظام الدولي على أسس متعددة القطبية، حيث تتصاعد أدوار قوى غير غربية مثل الصين وروسيا، وتتعقد التهديدات الأمنية عبر الفضاء السيبراني، والمجال النووي والمجال الفضائي، وتتآكل أنماط التفاهمات القديمة التي حكمت العلاقات بين الدول منذ نهاية الحرب الباردة.
في هذا السياق، تواجه منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، كأقوى تحالف عسكري في التاريخ الحديث، مجموعة من الأسئلة الوجودية تتعلق بجدوى بنيته الحالية، واستراتيجيته طويلة الأمد، وتماسكه الداخلي، وقدرته على البقاء كقوة موحدة وفاعلة.
– التحول من الحماية الأوروبية إلى الدور العالمي:
تأسس الناتو في عام 1949، بهدفٍ رئيس (حماية أوروبا الغربية من التهديد السوفييتي). ومع انهيار الاتحاد السوفييتي، واجه الحلف تحديا استراتيجيا في إعادة تعريف دوره. وبحلول العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، أصبح الحلف يطمح إلى توسيع نطاق عمله؛ ليشمل أقاليم أبعد مثل آسيا والمحيط الهادئ، حيث بدأ في بناء شراكات مع دول كاليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا، فيما يُعرف بمجموعة “الآسيويين الأربعة”.
تهدف هذه الشراكات إلى التصدي للنفوذ المتصاعد للصين، التي تُعد الآن منافسا استراتيجيا شاملا للولايات المتحدة وحلفائها، ليس فقط على الصعيد العسكري، بل أيضا على المستويين الاقتصادي والتكنولوجي.
ومن المُرجح أن تناقش قمة لاهاي توسيع إطار التعاون مع هذه الدول، في إطار ما يُعرف بـ”الناتو العالمي”، وهو مفهوم مثير للجدل يعكس التحول من تحالف دفاعي إقليمي إلى تحالف سياسي عسكري عابر للقارات.
– التهديد الصيني وتوسع الجبهة نحو المحيطين:
تُعد الصين أحد أبرز التحديات المستقبلية، التي يُفترض أن يُعيد الناتو صياغة عقيدته الأمنية في ضوئها. فبخلاف روسيا، التي تعتمد على “القوة الخشنة” (Hard Power)، تستخدم بكين استراتيجيات القوة الناعمة والاقتصاد التبعي والتكنولوجيا.. بوصفها أدواتٍ لنفوذها العالمي، عبر مبادرات مثل “الحزام والطريق” وشبكات الاتصالات من الجيل الخامس. وقد عبّرت وثائق الناتو الأخيرة عن القلق المتزايد من استثمارات الصين في البنى التحتية الحيوية داخل أوروبا، ومحاولاتها لتصدير نموذجها عالميا.
ومن المُرجح أن يُطرح في قمة لاهاي مقترح بإنشاء وحدة تحليلية داخل الحلف، تختص بتعقب السياسات الصينية، أو حتى تعيين مبعوث خاص للعلاقات مع آسيا، في خطوة تُشير إلى الانتقال من الاستجابة للأزمات الأوروبية، إلى مقاربة أكثر شمولا لتوازنات القوى الدولية.
– تحديات الذكاء الصناعي والتسلح السيبراني:
لا يقتصر المستقبل الأمني للناتو على الجغرافيا السياسية، بل يتداخل بشكل وثيق مع تطورات التكنولوجيا العسكرية. فمع تسارع تطورات الذكاء الاصطناعي، وأنظمة الطائرات بدون طيار، والحوسبة الكمية، يجد الحلف نفسه أمام سباق تقني مع قوى مثل الصين وروسيا. هذه الدول تستثمر بشكل هائل في تقنيات مزدوجة الاستخدام، يمكن توظيفها مدنيا وعسكريا في آنٍ معًا.
ومن المُرجح أن تدفع هذه البيئة الجديدة الحلف إلى زيادة الاستثمارات في البحث والتطوير، وتحفيز الدول الأعضاء على إقامة شراكات مع شركات التكنولوجيا الكبرى، لا سيما تلك العاملة في مجالات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني. كما قد يظهر اتجاه لتوسيع “صندوق الابتكار الدفاعي” التابع للحلف.
– أزمات الأمن المناخي والمخاطر البيئية:
يتزايد الاعتراف داخل دوائر الناتو بأن تغيّر المناخ يشكّل تهديدا مضاعفا للأمن العالمي. فالأزمات المناخية تؤدي إلى صراعات على الموارد، ونزوح سكاني، وتضرب البنية التحتية، وكلها عوامل قد تُستغل من قبل جماعات مسلحة أو قوى معادية. في السنوات الأخيرة، بدأ الحلف في إدماج البعد البيئي ضمن تحليلاته الأمنية، وهناك مساعٍ لإنشاء “إطار عمل للأمن المناخي”، يشمل تدريب الجيوش على الاستجابة للكوارث.
ومن المُرجح أن تُدرج قمة لاهاي هذا العنصر ضمن أولويات الناتو المستقبلية، خاصةً مع ضغط بعض الدول الأوروبية التي ترى في التغير المناخي خطرا وجوديا، أكثر من كونه مجرد متغير فرعي في سياقات الصراع التقليدي.
– التماسك الداخلي والخلافات بين الأعضاء:
أبرز المخاطر التي تهدد مستقبل الحلف.. ليست تلك القادمة من الخارج؛ بل الانقسامات الداخلية بين أعضائه. فالخلافات حول الإنفاق الدفاعي، ومكانة تركيا داخل الحلف، والتوترات بين واشنطن وبروكسل بشأن الحمائية الاقتصادية، كلها مؤشرات على تصدّع داخلي محتمل. وقد عبّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منذ سنوات عن هذا القلق بقوله إن الناتو يعاني من “موت دماغي”، بسبب غياب التنسيق السياسي الاستراتيجي بين أعضائه.
وفي ظل عودة ترامب إلى البيت الأبيض، تعود الهواجس الأوروبية مُجددا حول مدى التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن أوروبا، لا سيما إذا قرر ترامب خفض المشاركة الأمريكية، أو الانسحاب الرمزي من بعض التزامات المادة الخامسة (الدفاع الجماعي). هذا القلق قد يدفع بعض الدول الأوروبية، بقيادة فرنسا وألمانيا، إلى التفكير مُجددا في تعزيز “الركيزة الأوروبية داخل الناتو”، أو حتى تقوية القدرات الدفاعية الذاتية للاتحاد الأوروبي ككيان مستقل.
في هذا الإطار.. يمكن القول إن مستقبل الناتو في ظل المتغيرات العالمية ليس مضمونا ولا خطيّا. فبينما يُظهر الحلف مرونة في التكيف مع التحديات الجديدة، إلا أنه يقف على مفترق طرق استراتيجي: إما أن يتحوّل إلى قوة أمنية عالمية متعددة الأبعاد، أو أن ينكفئ على ذاته ويتآكل بفعل الانقسامات الداخلية والتحديات المتعددة المصادر.
قمة لاهاي قد لا تحسم هذا المسار، لكنها بالتأكيد ستُرسي خطوطه العامة، وتحدد إن كان الحلف ما يزال قادرا على ممارسة دوره؛ مرتكزا للسياسة الأمنية الغربية، في عالم يتغير بوتيرة أسرع من قدرة مؤسساته التقليدية على الاستيعاب.