جنينة «الفونس».. قصة قصيرة
صغاراً كنا، وكان يوم “شم النسيم” أحد بهجاتنا السنوية الكبيرة، في الليلة السابقة عليه نؤكد على أمهاتنا أن نصحو من النوم باكرا قبل طلوع الشمس، ونوصي بأن نصحو لنجد البيض مسلوقا، فليس لدينا صبر دقائق لننتظر دلع البيض على النار، نبرده بماء الحنفية إن كان ساخنا، ونجلس نحن العيال الأصحاب في صحن الدار؛ نلون البيض بالألوان الفاقعة، ما بين أحمر وأصفر وأخضر وأزرق وغيرها من الألوان المبهجة.
وقبل أن تسطع الشمس يلم كل منا حاجياته من مستلزمات ذلك اليوم في قطعة قماش نظيفة، لم نكن كعيال قرويين نعرف الفسيخ، أو الرنجة، بل كنا نشتري السردين البلدي المملح حسب قروشنا القليلة، والبصل الأخضر والأحمر الناشف والخس والخضراوات والليمون والخل ومخلل الكرنب والجزر واللفت، وبالطبع رأس القعدة كانت أرغفة العيش البلدي الرقيق الذي تصنعه أمهاتنا في الأفران الطين البلدي، وليس “عيش” الحكومة، فلم نكن نعرفه ولم يكن أحد من الفلاحين أيامها، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، يجرؤ على شراء مثل هذا العك الذى لا تصنعه نساء البيوت في الأفران البلدية. كانت أمي تجلس أمام “طشت العجين” بعد اختماره وتقوم بتقطيع العجين إلى قطع صغيرة بميزان يدها، الذي لم يكن يخذلها أبدا وهي تخبزه في الفرن البلدي في بيتنا البحري القديم، بينما كنت أتكوم بتأهب إلى جوارها أمام الفرن ألقف ما يخرج ساخنا.
كان كل ولد منا يضع مستلزمات “شم النسيم” في قماشته النظيفة ونذهب بعيدا إلى حيث (جنينة الفونس) والتي كانت تقع على بعد نحو بضعة كيلومترات من القرية، حيث تقع فيلا الخواجة (الفونس) ملاصقة لشريط السكة الحديد التي يمر عليها القطار الفرنساوي، قطار الفقراء الذي لم يعد له وجود الآن.. كان قطارا قصيرا عجوزا، مقاعد عرباته من خشب قديم، يتنقل بين المراكز والقرى فقط، يمشي ببطء مترنحا، وكان سائقه لا يتردد في أن يقف لاحدهم إذا ما شاور له من بعيد وسط المزارع. وأمام محطة قريتنا كان ناظر السكة الحديد عم (عايش) صعيدي الأصل، يجلس بهيئته الوقورة وزيه الرسمي الكحلي الأنيق داخل كشكه الخشبي المتواضع. لم يعد لهذا القطار العجوز وجود الآن، لكنني لا أنسى أن هذا القطار الغابر اختطف أحد زملائي، فقد كنا في الاعدادي حين كان هذا الزميل يقف بعوده الفارع على حرف سلم القطار، إحدى قدميه على السلم والقدم الأخرى يطوح بها في الهواء ويتمايل يمينا ويسارا، وعند ملف مدرسة “الملك الكامل” وفى انحرافة القطار الحادة ليعدل مساره سقط زميلي على الأرض ليصطدم بسيارة عابرة طائشة فلقي مصرعه في الحال.
كان الخواجة (الفونس) نادرا ما يسكن تلك الفيلا رغم معمارها البديع والبراح الواسع أمامها على امتداد البصر والمزروع بأشجار البرتقال والليمون واللارنج، كان يترك نتاج هذه الأشجار للفقراء الذين كانوا يأتون عليها قبل أن يكتمل نضجها. ذات مرة ونحن في طريقنا إلى مدرسة الأميرية الإعدادية العتيقة الواقعة في نهاية شارع المختلط أمام محطة سكة حديد المنصورة الرئيسية، وكنا غالبا نقصدها مشيا على الأقدام لتوفير قرش تذكرة القطار الفرنساوي، كنت وصديقي أمام بوابة الفيلا حينما نادى علينا الحارس لنرد على الهاتف، فقد كان حديث عهد بالفيلا، ولا يعرف كيف يتعامل مع هذا العفريت المسمى بـ “التليفون”، الذي وضع في “سبت” صغير أنيق على منضدة رخامية لازلت أتذكر كم كانت شديدة الروعة، فلم أر مثلها من قبل. سبقت صديقي إلى المنضدة الرخامية لأقبض بكلتا يدي ولأول مرة في حياتي على سماعة تليفون، مثل ذلك الذي كنت أراه في تليفزيون “الشيخ رزق” جارنا خطيب المسجد الكبير الذي كان من أوائل من أتوا بالتليفزيون في القرية، رغم كف بصره. سمعت صوتا يأتيني عبر هذا العفريت فانعقد لساني ولم أدر ماذا أقول؟، جذب صديقي التليفون من يدي ساخرا مني كيف لا أعرف أن أرد. قبض عليه بكلتا يديه بعصبية، ولاحظت حبات العرق تنسال من جبينه، فانعقد لسانه هو الآخر، فيما كان الرجل على الطرف الآخر يزعق ويصيح في ضيق حتى يأس وأغلق الهاتف ف وجوهنا، وحينما سألنا الحارس ماذا قال لكم الخواجة (الفونس) ؟، قلنا له بصوت واحد: قال آلو ولم نفهم منه شيئا بعدها. خرجنا من الفيلا ونحن نضرب كفا بكف ونكاد أن نسقط على الأرض من شدة الضحك.
على مدى سنوات كانت “جنينة الفونس” ملاذنا يوم شم النسيم، نتجمع بها في هذا اليوم، على النجيل الأخضر الذي يكسو أرضها، كان كل واحد منا يفرش قماشته النظيفة بما حوته من طعام.. كنا نأتي على كل الأكل، حرارة البصل الحار تصيبنا بعطش شديد، فلا تكفينا (القلة) الضخمة التي بحوزتنا، فيذهب أحدنا لملئها من الترعة المرتفعة للحواف والمحاذية لجنينة “الفونس” مرارا، ولا نعود إلى بيوتنا إلا قبيل المغرب مرهقين.