تقديم
منذ أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، وتحديدا مع سقوط غرناطة، آخر معاقل المسلمين في الأندلس عام 1492 وانطلاق حمى التوسع الخارجي الأوروبي بدءا بالإمبراطوريتين البرتغالية والإسبانية، وإنتهاء بالفرنسية والإنجليزية، تكرست صورة محددة للعلاقة بين عالم الشمال (أوروبا وأمريكا الشمالية) وعالم الجنوب (آسيا- إفريقيا-أمريكا الجنوبية).
تلك الصورة التي رسمها السياسيون وكرّستها عشرات الكتب ووسائل الإعلام والأفلام السينمائية وغيرها، هي لرجال بيض ينتمون إلى عالم الشمال يجوبون غمار البحار والمحيطات غير آبهين بالمخاطر ويغزون بلدانا بعيدة ويُخضعون سكانها البدائيين، بفضل السلاح الحديث الذي طوره علماؤهم.
إلا أن ثمة صورة أخرى تبدو وكأنها سقطت من متن التاريخ الرسمي، صورة لجنوب يقاوم الغزو ويتصدى له، بل ويحرز النصر في معارك حاسمة، رغم التفاوت في موازين القوى.
في هذه السلسلة، التي يكتبها خصيصا لموقع «أصوات أونلاين» يسعى الأستاذ عمرو عبد المطلب لتسليط الضوء على بعض من أبرز حلقات المواجهات على أراضي ما بات يعرف اليوم بدول «العالم الثالث»، والتي كان النصر فيها حليف السكان الأصليين أو شعوب الجنوب على حساب الغزاة القادمين من وراء البحار.
«أصوات أونلاين»
من مشاهد الثورة
أول ثورات أمريكا
في الرابع من شهر يوليو من كل عام يخرج الأمريكيون جمعا وفرادى إلى الساحات والميادين العامة ليحتفلوا بذكرى ثورة أجدادهم. تلك الثورة التي وقعت في عام 1776 ورسمت نهاية للوجود الإنجليزي الإستعماري في قارة أمريكا الشمالية، وأخرجت للوجود دولة جديدة باتت تعرف منذ ذلك الحين باسم الولايات المتحدة.
إلا أن الوثائق التاريخية والكشوف الأثرية تؤكد أن تلك لم تكن أول ثورة شعبية يشهدها ذلك الجزء من العالم. فقد كشفت حفريات في ولاية نيو مكسيكو الأمريكية، تعود إلى القرن السابع عشر الميلادي، عن ثورة أخرى سبقت الثورة الأمريكية بنحو مائة عام تقريبا. ثورة لم يقدها رجال بيض ينتمون إلى الثقافة الأنجلو سكسونية، وإنما رجال ونساء سمر البشرة ينتمون إلى أحد شعوب سكان القارة الأصليين المعروف باسم البويبلو.
https://youtu.be/FCRZtXt-sZk
وحشية الإسبان المستعمرين
كان المستعمرون الإسبان، المعروفين رسميا باسم «المستكشفين»، قد أحكموا قبل ذلك بقرن كامل سيطرتهم على ذلك الجزء من القارة، بدءا بحملة قادها القائد الإسباني دي كورنادو في شتاء عام 1540، للتوسع فيما يعرف اليوم بولاية نيو مكسيكو، وأدت إلى صدامات عدة بين البويبلو وبين الإسبان.
ورغم صمود البويبلو في باديء الأمر وإصرارهم على المقاومة، إلا أن الإسبان تمكنوا في النهاية، من سحق مقاومتهم على يد القائد خوان دي أوناتي في عام 1598 مستخدما في ذلك أكثر الطرق وحشية من قتل واستعباد لرجال البويبلو وتقطيع لأوصالهم.
انتقام الأهالي من الأسبان
لكن الإسبان لم يكتفوا بإخضاع السكان الأصليين عسكرياً، بل أصروا على فرض عقيدتهم الدينية عليهم، حيث حظر على البويبلو ممارسة طقوسهم وشعائرهم الدينية المعروفة باسم كاتشينا وحظرت أيضا كافة مظاهر هذه العقيدة من رقصات وأقنعة وغير ذلك. وزاد الأمر سوءا تعرض المنطقة للقحط بدءا من عام 1670، الأمر الذي أدى إلى وقوع مجاعة في أوساط البويبلو.
إنتصار أصحاب الأرض
أدى تسلط الإسبان إلى زيادة السخط بين قبائل البويبلو والتف رجال القبائل حول طبيب تقليدي يدعي «بوبي» طاف كافة مدن قومه على مدار سنوات خمس يدعوهم فيها لتنظيم أنفسهم والثورة على الإسبان.
تمثال القائد «بوبي» قائد ثورة شعب «البويبلو»
تكللت جهود بوبي بالنجاح حين حصل على موافقة زعماء القبائل على المشاركة في ثورته، واستطاع جمع نحو ألفي رجل قادرين على حمل السلاح، ووضع بوبي خطة تقضي ببدء الهجوم يوم 11 أغسطس 1680. إلا أن أنباء ما يخطط له تسربت إلى الإسبان، مما دفع الطبيب إلى التعجيل بالهجوم والذي وقع بالفعل صبيحة العاشر من أغسطس.
في ذلك اليوم، هب البويبلو من كافة أنحاء نيو مكسيكو –باستثناءات محدودة- وهاجموا الحامية الإسبانية إضافة إلى كافة الإسبان المقيمين في المنطقة.
بحلول اليوم الثالث للثورة تمكن ثوار البويبلو من تدمير كافة منشآت الإسبان وحصار عاصمتهم سانتا في، وأفرغوا جام غضبهم على رجال الدين الكاثوليك، الذين كانوا يجبرونهم على تغيير عقيدتهم. وقد بلغ عدد القتلى من المستعمرين الإسبان نحو 400 قتيل.
لوحة تجسد الثورة
ورغم لجوء من بقي من المستعمرين الإسبان إلى سانتا في، إلا أن ذلك لم يُجدْهم نفعا حيث قطع المحاصِرون من البويبلو إمدادات المياه عن المدينة وأحرقوا أحياء فيها. وبعد 11 يوما من الحصار المتواصل، قرر المستعمرون بقيادة حاكم المدينة أنطونيو دي أوتميرن شن هجوم مضاد لفتح طريق للهروب من المدينة، وتمكنوا بالفعل من الفرار وإتجهوا نحو المكسيك.
فروسية الثوار
ومن اللافت هنا أن بوبي ومن قادهم من الثوار لم يسعوا لتعقب الفارين ولم يكمنوا لهم على طول الطريق، وإنما تركوهم يفرون. حيث يبدو أن السكان الأصليين لم يكونوا متعطشين للدماء كجلاديهم، وإنما كانوا يسعون فحسب إلى استعادة أراضيهم.
ورغم أن إنتصار بوبي لم يدم طويلا حيث تمكن الإسبان من العودة إلى سانتا في في تسعينات القرن السابع عشر، إلا أنهم أدركوا ضرورة التسامح مع عقيدة السكان.
https://youtu.be/B3_U805fz24
وتبقى ثورة بوبي أول نموذج لهبة شعبية تتمكن من دحر المستعمر الأوروبي واستعادة أراض احتلها بالقوة العسكرية، ليس فقط في الأمريكتين، وإنما في دول العالم الثالث ككل.
(يتبع)