تبدو الكتابة عنها أمراً مُغريا جداً لما تمتلكه من جوانب متعددة وأبعاد متنوعة فى شخصيتها الاستثنائية، فهى الراقصة الأهم فى القرن العشرين التى جعلت من الرقص الشرقى فنا لا يثير الغرائز كما كان قبلها بقدر ما يثير التأمل والإثارة الذهنية والشغف، وهى الممثلة المتميزة التى نضجت يوما بعد يوم وبسرعة فائقة، فصارت ممثلة تمارس الرقص وليست راقصة تقوم بالتمثيل، وهى جزء من تاريخ نضال وطنى.. فقد ناضلت ضد الاحتلال البريطاني، وانضمت للمعارضة السياسية فى معظم العصور.. اعتُقلت فى عهد عبد الناصر وأعلنت معارضتها بقوة للسادات واعتصمت وأضربت عن الطعام ضد قوانين مبارك حتى تم تعديلها.
https://www.facebook.com/Aswatonline/videos/513895449178529/?t=3
هى العروبية التى رفضت التطبيع مع الكيان الصهيوني، وتضامنت دوما مع الشعب الفلسطينى، وهي النقابية التى لم يمنعها مرضها من قيادة إعتصام اصحاب المهن الفنية، وهي أيضا الانسانة المنحازة دوما للانسان، المُنتصرة لحقوقه مهما كلفها ذلك.. دافعت عن اختياراتها مواقفها طوال الوقت، ودفعت ثمنا في أحيان كثيرة لتلك الاختيارات والمواقف.. هى العنيدة الصلبة المتوهجة والانثى الجميلة الساحرة والمتمردة على القمع والظلم والاذلال.. هى تلك التي ينطبق عليها قول الشاعر محمد الشهاوى «هى إمراة تشبه المستحيلا».
نحن فى حضرة الست «تحية كاريوكا» التى تمر ذكراها العشرون، وما تزال حاضرة بكل تفاصيلها بيننا، بينما لم تتوقف الكتابة عنها. والمدهش أن المؤرخين والمفكرين كتبوا عنها كثيرا وبما لا يقل عما كتبه عنها نقاد السينما والفنون.. وأكبر مثال على ذلك أن المفكر الفلسطينى الراحل «إدوارد سعيد» كتب عن هذه الشخصية الغنية متعددة الأبعاد.
طفولة معذبة وتمرد مبكر
فى ١٩ فبراير عام ١٩٢١، وعلى بعد ايام قليلة من مولد الملك فاروق الذى حكم مصر (1936- 1952)، أطلقت الطفلة «بدوية محمد علي النيداني» صرخة ميلادها في قرية المنزلة مسقط رأس الام. أطلق عليها الأب الذى، كان يعمل بحارا، عليها أسمها الاصلى «بدوية »، كان الاب بحكم عمله كثير السفر، لكنه كان أيضا كثير الزواج، حيث بلغت زيجاته سبعا، ثم رحل الاب مبكرا ليترك مع جدتها. وبعد وفاة جدتها أقامت الطفلة اليتيمة لدى اخيها من الأب، فجعلها خادمة لزوجته، لتبدأ رحلة العذاب بعد اجبارها على ترك المدرسة لتتفرغ لخدمة أسرة أخيها، ولتبدأ أيضا رحلة طويلة من التمرد والعصيان ضد كل اشكال القمع والتعذيب وانتهاك الانسانية.
ومع تزايد شعورها بالقهر تقرر «بدوية» الهرب والتمرد، فتستقل القطار الى القاهرة وهى بنت الرابعة عشر ربيعا فقط، وتتوجه إلى شارع عماد الدين بحثًا عن المطربة والراقصة سعاد محاسن التى كانت تعرفها عن طريق اسرتها. حاولت سعاد محاسن اقناعها بالعودة إلى أهلها، وأمام رفضها وتهديدها بالانتحار، إضطرت «سعاد محاسن» إلى الابقاء عليها وارسلتها الى الفنانة «بديعة مصابنى» التى تبنتها وفتحت لها بيتها للاقامة معها وظلت تعمل معها، بعد أن اكتشفت مواهبها الرائعة فى الرقص.
الرقص والسينما
ولعل اسم «كاريوكا» الذى حملته تحية طيلة حياتها يرجع الى اتقانها لرقصة الكاريوكا الشهيرة التى صممها «ايزاك ديكسون» لتكون ضمن فيلم «داون تريو» بطولة الفنان الامريكى «فريد استر» ولاقت تلك الرقصة شهرة كبيرة، أما اسم «تحية» فكان من اختيار الفنانة «بديعة مصابنى» التى فضلته عن اسمها الاصلى «بدوية».
بدأت علاقة تحية كاريوكا بالسينما على يد المخرج «توجو مزراحى» الذى شاهدها فى صالة «بديعة مصابنى» وعرض عليها العمل معه، لتمثل أول افلامها «الدكتور فرحات» 1935، لتنطلق بعدها فى مسيرة سينمائية حافلة مثلت خلالها 117 فيلما سينمائيا مع أبرز مخرجي مصر فى القرن العشرين، بينهم صلاح أبو سيف ويوسف شاهين وحسن الامام وحسين كمال وغيرهم، ومن هذه الأفلام عشرة أفلام جاءت ضمن اختيار النقاد لأفضل مائة فيلم فى تاريخ السينما المصرية وهى «شباب امراة» عام 1956 و«الفتوة» 1957 و«احنا التلامذة» عام 1959 و«واسلاماه» 1970 و«ام العروسة» عام 1972 و «خلى بالك من زوز» 1972 و«الكرنك» 1975 و «زائر الفجر» 1975 و «السقا مات» 1977و«للحب قصة اخيرة» عام 1986.
ورغم أن تحية رفضت عام 1940 طلب زوجها رجل الأعمال المصرى «محمد سلطان» اعتزال الرقص، وهذا ما تسبب فى سرعة انفصالهما، إلا أنها وبعد سنوات من هذا التاريخ قررت الاعتزال وهي فى ذروة عطائها ومجدها بمحض ارادتها، لتتفرغ للتمثيل. فكان قرار تحية باعتزال الرقص الشرقى الذى تركت فيه بصمة مهمة لا يمكن تجاهلها، وكما قال الموسيقار محمد عبد الوهاب «إن كاريوكا حررت الرقص الشرقي من تأثير الأجنبيات، ومثلها في ذلك مثل سيد درويش الذي حرّر الموسيقى المصرية من تأثير الأتراك».
مواقف وطنية ناصعة
يظل الدور الوطنى الذى لعبته تحية كاريوكا خلال عمرها الممتد لثمانية عقود تقريبا محل اهتمام ودراسة، بل محل تقدير وإجلال من كل معاصريها. فقد نشات فى اسرة عرف عنها مقاومة الانجليز والمشاركة فى الأعمال الفدائية وتربت فى سنوات طفولتها – التعيسة – فى تلك الأجواء الوطنية، وربما الأثر الوحيد الإيجابى لطفولتها هو ذلك الإيمان الراسخ معها بقيمة الوطن وقدسيته واصرارها على الدفاع عما تعتقد أنه صحيح.
وقد كان لها نشاط مع الفدائيين المصريين في الخمسينيات تعرفت خلاله على أنور السادات، وقد ظل مختبئًا بمعرفة الفدائيين لفترة طويلة. وكانت تحية من ضمن من ساعده على الهرب. وفي لقاء لها به عام ١٩٧٨ قال لها: «إني كنت أعمل مع شقيقك»، يقصد في العمل الفدائي. هنا وقفت تحية وقالت: «لا يا ريّس. أنت كنت هربان» فضحك السادات ولم يعلق.
كانت قريبة من المثقفين والسياسيين المعارضين والكتّاب اليساريين، بل إنها انخرطت في «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني» – حدتو – وشاركت تحية فى مهرجان الشبيبة العالمى الذى عقد فى بوخارست عام 1956 والمعروف أن لهذا المهرجان توجها يساريا واضحا وقدمت خلال المهرجان عدة رقصات أبهرت الحضور ولفتت النظر للوفد المصرى.
https://youtu.be/A4fdyuSvmQM?t=1028
وعقب عودة الوفد تم القاء القبض على عدد من المشاركين فيه كان من بينهم تحية ضمن القضيه التى عرفت حينذاك بقضية «الجبهة الوطنية»، والتى كانت تضم كلا من حركة حدتو اليسارية وعناصر من الطليعة الوفدية. وقد اثار اعتقالها غضب الفنانين المصريين وقتها واستمرت الضغوط تتصاعد حتى تم الافراج عنها بعد ان قضت 96 يوما فى السجن.
ويؤكد الكاتب الراحل صلاح عيسى أنه عندما طالع ملف تلك القضية أكتشف أنه يخلو من أى شىء يتعلق بالتحقيقات التى جرت مع تحية خلال سجنها.
تتعدد المواقف التى تؤكد أننا أمام سيدة إسثنائية وأيقونة وطنية، ليست مجرد راقصة او ممثلة. فهى التى رفضت أن ترقص أمام الزعيم التركي كمال أتاتورك لأنه أهان السفير المصري أمامها، ولم تساوم على موقفها او تتراجع عنه.
إمرأة بألف رجل
فى عام 1956 كان المخرج صلاح أبو سيف وفريق عمل فيلم «شباب امراة» مشاركا كضيف فى مهرجان «كان». وقد لاحظت تحية – بطلة الفيلم – تجاهل وسائل الاعلام للوفد المصرى فقررت لفت الانتباه وارتدت «الملاية اللف» لتنجح فى أن تخطف أنظار كل وسائل الاعلام العالمية بهذا الزى الشعبى المصرى. وخلال حفل غداء للوفود المشاركة نشبت مشادة عنيفة بين «تحية» والممثلة الأمريكية «سوزان هيوارد» والممثل الامريكى «دانى كاي» بسبب دفاعهما عن إسرائيل وهجومهما على مصر وعبد الناصر بطريقة استفزت تحية، فأعلنت عن غضبها وأمطرتهما بوابل من السباب وبصقت عليهما وكادت أن تضربهما لولا فرارهما من أمامها.. إنها تحية التى لا تعرف المواربة، ولا أنصاف المواقف.
https://youtu.be/QJSIYQC1SrM?t=119
وهى التى تضامنت مع عبد الحليم حافظ بعد أن هاجمه الجمهور فى أول حفلة يغني فيها واصرار صاحب المسرح على طرده لولا تدخل «الست تحية» التى كانت تقدم فقراتها على نفس المسرح واشترطت لاستمرارها بقاء عبد الحليم.
وفى عام ١٩٦٨ أصدر وزير الداخلية الأسبق شعراوي جمعة قرارًا بمنع عرض مسرحية «كدابين الزفة» بطولة تحية كاريوكا وتاليف زوجها حينذاك «فايز حلاوة»، فما كان منها سوى الاعتصام والاضراب عن الطعام إلى أن رفع قرار المنع بعد حذف أجزاء من النص.
وفى عام 1988، ورغم المرض وتقدم العمر تبقى تحية هى السيدة الصلبة القوية المتماسكة لتقود اعتصام الفنانين المصريين احتجاجا على القانون 102 ،وتقرر تحية – منفردة – الدخول فى اضراب عن الطعام وكأنها تستعيد تراثها النضالى الذى تعلمته من اليسار الذى ارتبطت به دوما، وتفشل محاولات زملائها في اقناعها بانهاء الاضراب خوفا من تدهور صحتها حتى تدخل الرئيس الأسبق حسنى مبارك وأنهى الازمة، واتصل بها تلفونيا لتنتهى الازمة بانتصار «تحية» وزملائها.
وبعد مسيرة حافلة ورحلة عطاء للفن والوطن، بدأت بالمعاناة، اختتمت تحية كاريوكا حياتها بفصل جديد من المعاناة، خاصة بعد أن إختلفت مع طليقها «فايز حلاوة» ونشبت بينهما صدامات، وإنتهى الامر وفقا لروايتها إلى إجبارها على ترك منزلها دون أن تتمكن من الاحتفاظ بكل متعلقاتها، وحتى صورها ونسخ شرائط أفلامها ومسرحياتها، ولم تجد سوى شقة صغيرة جدا تكمل فيها سنواتها الاخيرة.
وظلت تحية حتى آخر لحظة من عمرها هى نفس الست الجدعة الجريئة التى تدافع عن وجهة نظرها ولا تنشغل بالعواقب ولا بالنتائج. بعد عشرين سنة على رحيلها فإننا مدينون بالتحية إلى روح تحية وفنها ونضالها.