خمسة وثلاثون عاما مرت منذ إعدام المفكر والسياسي السوداني محمود محمد طه، لكنه لايزال حاضرا بقوة بأفكاره ورؤاه في أوساط المثقفين والتنويرين السودانيين والعرب، ولايزال هذا الحضور المؤثر يطرح السؤال.. هل كان اعدام طه حقا انتصارا للدين الإسلامي؟ أم كان في حقيقته حرمانا لهذا الدين من واحدة من الأفكار التنويرية والحداثية التي حاولت تطوير منظومة فهم النص الديني،واغتيالا سياسيا لرجل عرف بمعارضته لنظم الحكم السلطوية في السودان. فقد كان محمود محمد طه الجمهوري الوحيد في فترة الحكم الملكي، بل حتى قبل أن يحظى السودان باستقلاله السياسي والجغرافي عن مصر؟
https://www.facebook.com/Aswatonline/videos/117831016155509/?t=0
في صبيحة يوم الجمعة 27 ربيع الثاني 1405هـ الموافق 18 يناير عام 1985، سُحب محمود محمد طه مقيدا بالسلاسل، حيث أوقف على قطعة مدورة من الخشب تلك التي تسمى بطبلية الإعدام،بينما اصطف من حوله طلابه ومريدوه ليشاهدوا بأعينهم اغتيال الفكرة التي تربوا عليها ،وحلموا بنضجها وتطويرها هم الأكثر تسامحا وعقلانية.
لم يرحم جلادوه شيخوخته، ولا عمره الذى كان وصل إلى خمسة وسبعين عامًا، أوقف مكبل اليدين فوق منصة الإعدام التى كانت تتوسط الساحة، بينما يحيط بها كبار ضباط مصلحة السجون، وعدد من رجال الشرطة الذين ظهرت عليهم العصبية والقلق.
في ذلك اليوم اكتظت ساحة سجن (كوبر) بالخرطوم، بالمئات من أتباع الجماعات الدينية.. إخوان مسلمون،وسلفيون ،وحتى بعض أتباع الطرق الصوفية التي تجد انتشارا واسعا في البيئة السودانية. كان الجميع في انتظار خروج روح الرجل، بينما يدور في أذهانهم القول: (لو تخلى محمود عن أفكاره فهذا انتصار للإسلام، ولو أعدم فقد تخلصنا منه). لم يفكر أحدهم لحظة أن انتصار أفكار طه ربما يكون محاولة لتحريرهم من سلطة مستبدة، وتغييرا لأفكار أسست منظومة سلطوية احتقرت واحتكرت الشعوب بإسم الإسلام وباسم الدين.
عم المكان صمت رهيب، بينما شرع المدعى العام يتلو قرار المحكمة الشرعية التى شكلها الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميرى: «إنّ محمود محمد طه مرتد عن الدين، ليس فقط ردة فكرية، وإنما هو مرتد بالقول والفعل، داعية إلى الكفر.. معارض لتحكيم كتاب الله».
البدايات والنشأة والتكوين
وُلد محمود محمد طه عام (١٩٠٩)، وبدأ تعليمه بالدراسة في الخلوة الصوفية على عادة أهل السودان في تلك المرحلة، حيث درس القرآن وتعلم بعضًا من قواعد اللغة العربية. ولما أصبح شابًا تزوج من آمنة لطفى عبدالله قبل الأربعينيات، وأنجب منها أول أبنائه محمد، وأسماء (رئيسة الحزب الجمهورى السودانى) وسمية.
تخرج محمود فى العام ١٩٣٦م في كلية الهندسة بجامعة الخرطوم، وعمل مهندسًا بمصلحة السكك الحديدية، والتى كانت رئاستها بمدينة عطبرة، ثم اعتقل عام ١٩٤٦، لأنه انتقد الحضارة المادية الغربية ووصفها بالإفلاس في زمن الاحتلال الانجليزي لمصر والسودان، ودعا إلى مدنية جديدة يقيمها فى السودان تلف الإنسانية جمعاء، كما دعا إلى مقاومة الاستعمار عبر العصيان المدنى، ومدح الاشتراكية وعدالتها، وطالب بالديمقراطية. إلا أنه اشترط حدًا أدنى للتعليم للحصول على حق الانتخاب، وطالب بالمساواة بين المرأة والرجل والوحدة الإنسانية.
عقب الإفراج عنه دخل طه منذ عام ٤٦ وحتى عام ١٩٥١ في خلوة مجددا، ليخرج بعدها وقد أعلن عن مجموعة من الأفكار الدينية والسياسية سماها (الفكرة الجمهورية). وفي إطار هذه الأفكار دعا طه إلى قيام حكومة فيدرالية ديمقراطية اشتراكية تحكم بالشريعة الإسلامية – وفقا لتصوره عن الشريعة (فى ١٨ نوفمبر ١٩٦٨م حوكم محمود بتهمة الردة أمام محكمة الاستئناف العليا الشرعية، لكنه رفض الامتثال لأمر الحضور للمحكمة، بتهمة ترك الصلاة والدعوة لترك الصيام، وقوله إن الزكاة والجهاد ليسا أصلًا فى الإسلام).
مشروع مثير للجدل
أخرج الأستاذ محمود محمد طه خلال تلك الفترة كتاب «الرسالة الأولى للإسلام»، ثم «الرسالة الثانية للإسلام»، وكان مجموع أفكاره المثيرة للجدل، هو أنّ الآيات القرآنية التى نزلت فى صدر الدعوة الإسلاميّة بمكّة تمثّل أصل القرآن. ففى هذه الآيات يبدو الإسلام دينًا متسامحًا ينبذ الإكراه، وهى الآيات التى بدأ بها النبى دعوته فى مكّة، ومثالها «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ».
استمر طه فى تطوير أفكاره تلك حتى وصل إلى أنّ نسخ أصول القرآن بفروعه فى القرن السابع الميلادى لم يكن إلغاءً نهائيّا لأحكامه، وإنّما كان مجرد إرجاءٍ لتلك الأحكام لادّخارها للمستقبل، والسبب الذى يراه فى ذلك هو النزول عند حاجة ذلك المجتمع وطاقته. واعتبر أنّه لو كان النسخ نهائيّا لأصبح أحسن ما فى ديننا منسوخًا بما هو أقلّ منه، أى أنّ السماح وهو خير من الإكراه، يكون قد نُسخ إلى الأبد بحكم أقلّ منه، منبّها إلى نقطة مهمّة تفضى إلى أنّ الأحسن فى الشرائع ليس أحسنَ فى ذاته، وإنّما يُقاس بملاءمته لحاجة المجتمع وظرفه التاريخى.
سمّى طه هذا التصور المفضى إلى استعادة روح الآيات المكّيّة بـ«الرسالة الثانية من الإسلام»، وهى عنده الرسالة الأصل، وقد كتب طه مؤلّفًا حمل الأسم نفسه ضمّنه بضعة عناوين جاء من بينها «الجهاد ليس أصلا فى الإسلام»، و«عدم المساواة بين الرجال والنساء ليس أصلًا فى الإسلام»، و«الحجاب ليس أصلًا فى الإسلام»، و«تعدد الزوجات ليس أصلا فى الإسلام»!
على صعيد آخر كان الحزب الجمهوري السوداني يزداد قوة وحضورا شعبيا، وقد أثارت التشككات حول امكانية وجود تحالف بين الجمهوريين بقياده طه وبعض التكتلات اليسارية والشيوعية في السودان ضد حكم نميري، رغبة نميري في التخلص منه، وقد وجد الفرصة سانحة للتخلص منه باعتباره مرتدا عن الدين الإسلامي.
وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع الأفكار التي حملها مشروع محمود محمد طه، فإن التأثير الواضح له في الأوساط السياسية والثقافية والدينية السودانية والعربية، يجعل من مناقشة والتوقف عند ما جاء في هذا المشروع «التجديدي»، مسالة ضروورية، كما يدعونا لإعادة طرح السؤال عما إذا كان إعدام الرجل اغتيالا سياسيا ومحاولة لإسكات صوت معارض للأبد، وكرد فعل على معارضته لقرارات سبتمبر 1981 في السودان؟ أم أن ذلك كان انتصارا وحفاظا على الفكر الديني من محاولة تجديفية تبناها طه بالدعوة للتحلل من أحكام الشريعة الإسلامية وبعض اهم أركانها وفروضها؟
كان طه نموذج فريد ووحدوي بين المفكرين العرب التنويرين من أصحاب المشاريع الثقافية، حيث قدم أول محاولة للجمع ما بين السياسي والثقافي التنويري، وبين الواقع والنظرية. لكن في النهاية كان مشروعه السياسي سببا في اغتيال مشروعه الثقافي والفكري، حيث برر نميري وحكومته للجمهور والرأي العام العالمي اعدام طه بأنه كان بسبب أفكاره التجديفية في حق الدين الإسلامي.
رغم اغتياله ماديا وفكريا فقد بقيت أفكاره تجد من يحملها ويدعو لبعثها من جديد، لاسيما في أعقاب الثورة السودانية الأخيرة التي أطاحت بحكم عمر البشير، وفتحت الباب أمام الجمهوريين لاستدعاء والدعوة لأفكار مؤسس التيار الجمهوري السوداني محمود محمد طه، الأمر الذي يؤكده الإقبال الكبير على كتب الجمهوريين المنافس الأشرس على الساحة السياسية للإخوان المسلمين، لاسيما بعد عودة العديد من رموز الجمهوريين إلى السودان الذين آثروا الهجرة منذ العام 1989، مثل النور حمد وعمر القراي. وكان آخر العائدين أحمد المصطفى دالي.
الفيديو جرافيكس