*رود سوتش – رئيس تحرير سابق لموسوعتي World Book وEncarta.
*عرض وترجمة: أحمد بركات
يثير كتاب War over Peace: One Hundred Years of Israel’s Militaristic Nationalism (الحرب على السلام: مائة عام من القومية العسكرية الإسرائيلية) (2019)، لعالم الاجتماع الإسرائيلي، أوري بن إليعازر، العديد من التساؤلات حول طبيعة المجتمع الإسرائيلي. ومن أهم هذه الأسئلة: لماذا حاولت إسرائيل حل كل صراع واجهته، أو بدأته بالوسائل العسكرية وليس الدبلوماسية؟
تتلخص الإجابة من وجهة نظر الكاتب في أن الحرب والعنف متجذران في الأيديولوجيا الصهيونية؛ حيث تقوم هذه الأيديولوجيا بالأساس على مكونين رئيسيين، هما «القومية الإثنية» (Ethnonationalism) و«النزعة العسكرية» (Militarism)، اللذين يصدران عن حتمية الهيمنة الحصرية على «أرض إسرائيل»، دون منح العرب أي سلطة سياسية. ولا يمكن استجلاء هذه الحتمية في مجرد موقف سياسي أو اقتصادي، وإنما في استفحال ثقافة «الاحتلال الاستيطاني» الصهيونية. ويخلص بن إليعازر إلى أن هذه الثقافة تعتمد بصورة أساسية على أحد اشكال القومية الكولونيالية المستلهمة من الدين.
في كتاب سابق بعنوان ، The Making of Israeli Militarism «صناعة النزعة العسكرية الإسرائيلية» (1998)، يسبر بن إليعازر أغوار نشأة إسرائيل «كأمة مسلحة»، وهو الموضوع الذي يواصل بحثه في هذا الكتاب الجديد «الحرب على السلام» – والصادر عن مطبعة جامعة كاليفورنيا – أيضا، وذلك من وجوه عدة، مكملا لكتاب Fortress Israel «حصن إسرائيل»، الذي كتبه مراسل صحيفتي «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» السابق، باتريك تايلر، إلا أن الأخير فشل في تفسير مكونات القومية الإثنية في الأيديولوجيا الصهيونية التي أبرزها بن إليعازر.
القومية الإسرائيلية والتعطش للقوة
برغم دراسته كعالم إجتماع، يستخدم بن إليعازر منظورا تاريخيا في بحث تطور ثقافة القومية الإسرائيلية ذات النزعة العسكرية، حيث يقوم الباحث ببناء سردية تشمل الكولونيالية الصهيونية في مرحلة ما قبل الدولة، والنكبة في الفترة بين عامي 1947 إلى 1949، وحرب السويس (العدوان الثلاثي) في عام 1956، وحربي عام 1967 و1973 ضد الدول العربية المحيطة، وحربي لبنان، والانتفاضات الفلسطينية، والحروب الأخيرة ضد غزة.
يدمج الكاتب أفكاره عن الشخصية الإثنوقومية التي تكمن خلف هذه الصراعات في نسيج كل فصل من فصول الكتاب؛ إلا أن الإطار التاريخي الذي يستخدمه يميل إلى الهيمنة على الدراسة. ونتيجة لذلك، يجد القارئ في هذا الكتاب «جرعة» تاريخية تفوق التحليل الاجتماعي. ويرجع ذلك على الأرجح إلى إدراك الكاتب العميق للحاجة إلى إزالة ’النزعة الأسطورية‘ عن الدعاية التي تستخدمها إسرائيل لتصوير نفسها على أنها «داود المستضعف» المحاصر بالجالوتيين (العمالقة من جنود جالوت) العرب.
يبدأ بن إليعازر سرديته بتحليل الحركة الصهيونية في مرحلة ما قبل الدولة، التي يقسمها إلى ثلاثة معسكرات، هي: «العمال»، و«التصحيحيين»، و«مزدوجي القومية»، مع مزيد من الاهتمام بنقد النزعة القومية المتمركزة على الإثنية التي قدمها المثقفون من مجموعة «مزدوجي القومية» التي كان يطلق عليها «بريت شالوم». وفي إشارة إلى التقارب بين معسكر التصحيحيين من جانب والفاشية الأوربية من جانب آخر، يعزو بن إليعازر الهيمنة النهائية للصهيونية العمالية إلى «الهولوكوست».
في هذا السياق، يؤكد بن إليعازر أن المصير الذي واجهه اليهود الأوربيين تحت حكم الفاشية النازية قد دفع بالغالبية الغالبة من المستوطنين الصهيونيين إلى الاعتقاد بأن القوة العسكرية تمثل مكونا جوهريا. ونقلا عن أرشيف جناح «الصهيونية العمالية» في عام 1943، يسلط بن إليعازر الضوء على النتيجة التي خلصت إليها هذه المجموعة، والتي تتمثل في أن «التعطش إلى القوة، والاندفاع نحو القوة وجنونها» كان ضروريا. وقد دفع السعي وراء تحقيق التفوق العسكري الزعيم الصهيوني العمالي، ديفيد بن جوريون، إلى الدعوة لبناء جيش، ولاحقا إلى الترحيل الجماعي للفلسطينيين، لأنه توقع نهاية الانتداب البريطاني في أعقاب توصية الأمم المتحدة بالتقسيم.
ديفيد بن جوريون
يرفض بن إليعازر إدعاء المؤرخ الإسرائيلي، بيني موريس، بأنه لا يوجد دليل وثائقي يثبت وجود أمر صريح بالطرد الجماعي للفلسطينيين. في هذا السياق يؤكد بن إليعازر أن وجود هكذا دليل غير ضروري لأن نية طرد الفلسطينيين على نطاق واسع كانت مفهومة ومقبولة بقوة عند الجماعات شبه العسكرية، وتحولت بسلاسة من مجرد «حالة ذهنية إلى تصور ثقافي ثم إلى أيديولوجيا».
ويضيف الكاتب أن هدف التطهير العرقي بات واضحا إلى أقصى درجة عندما رفضت القوات الإسرائيلية حق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم بعد فترة طويلة من بناء إسرائيل. كما يؤكد أن استمرار عمليات طرد الفلسطينيين في أواخر عام 1948، وبداية عام 1949 لم يكن له علاقة بالأمن. وبدلا من ذلك، يؤكد بن إليعازر أن عمليات الطرد قد أظهرت «هدفا عرقيا وقوميا واضحا، وهو منع أي إمكانية لوقوع تقسيم مستقبلي»، ومن ثم أي مطالبة عربية بنسبة الـ 22% المتبقية من الانتداب على فلسطين. بالإضافة إلى ذلك، سعى القادة الإسرائيليون إلى ضم هذه المناطق كجزء من إسرائيل الكبرى.
الصهيونية الدينية
يشير كتاب «الحرب على السلام» إلى تأكيدات مؤرخين ومفكرين آخرين بأن الهدف النهائي للكولونيالية الاستيطانية هو احتلال الأرض. وفي هذا الصدد يشير بن إليعازر إلى أن هيئة الأركان العامة في الجيش الإسرائيلي كانت تخطط للحصول على مزيد من الأراضي في عام 1963. ففي ذلك الوقت، كانت قوة الجيش تؤهله لبسط سيطرته على القيادة المدنية، وهو ما فعله ببساطة من خلال تجاهل استراتيجية وقف التصعيد التي كانت محل تفضيل رئيس الوزراء، ليفي إشكول، وشن حرب عام 1967 ضد مصر، وهو المسار الذي أطلق عليه فيما بعد «ثورة الجنرالات».
قد أدى احتلال إسرائيل للضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، وقطاع غزة، وشبه جزيرة سيناء في مصر، ومرتفعات الجولان السورية إلى تسليط الضوء على ما يطلق عليه بن إليعازر «الصهيونية الدينية». فما كان في بعض الأحيان اتجاها خفيا يستخدمه الصهاينة العلمانيون والدينيون على حد سواء، لتبرير الإجراءات التي كانت تتخذها السلطات الإسرائيلية في بعض الأحيان، بدأ في ذلك الوقت يبرز كمبرر عام لاحتلال فلسطين بأكملها. وقد تجاوزت هذه الحركة الدينية القومية الجديدة الأسباب الأمنية للاحتلال، وحشدت، بدلا من ذلك، أدلة دينية وقومية بدعوى أن الأراضي المحتلة هي عطية الله لليهود، ومن ثم لا يمكن التنازل عنها.
لكن الانتكاسات العسكرية التي تكبدتها إسرائيل في حرب أكتوبر 1973 ضد مصر وسوريا، وفي الحروب الإسرائيلية التالية على لبنان، أدت إلى إعادة النظر في هذه «الروح الجماعية» التي تقوم عليها الحركة الدينية القومية، وإلى ظهور جماعات مناهضة للحرب، مثل «حركة السلام الآن». كما طرحت الخسائر التي تكبدتها إسرائيل في هذه الصراعات، سؤالا عاما بشأن التوافق بين القومية واليهودية.
وعندما ألقى أحد القوميين اليمينين قنبلة يدوية على مظاهرة نظمتها «حركة السلام الآن» في عام 1983، ما أسفر عن مقتل مواطن إسرائيلي، وصف بن إليعازر الحادثة بأنها «نقطة تحول فارقة، لن يعود المجتمع الإسرائيلي بعدها إلى ما كان عليه قبلها…» لقد انتهى عصر الهيمنة والإجماع على بناء الأمة وإنشاء الدولة».
رغم ذلك، كان الكاتب أقل نجاحا في وصف كيفية تقزم هذه «اللحظة الفارقة»، التي شهدت ميلاد ما يطلق عليه بن إليعازر «القومية الليبرالية»، أو «القومية المدنية»، إلى مجرد فصل قصير في التاريخ الاجتماعي لإسرائيل. ويعترف بن إليعازر بأن اغتيال رئيس الوزراء الأسبق إسحاق رابين على يد متشدد يهودي عام 1995، وفشل إسرائيل في الوفاء باتفاقات أوسلو، قد لعبا دورا محوريا فيما يطلق عليه «انتكاسة عن مجتمع أكثر ليبرالية». وتزامن ذلك مع عودة ظهور القومية الدينية في صورة أكثر تشددا. لكن الكاتب لم يقدم تفسيرا وافيا لذلك. وهنا يطرح سؤال مهم نفسه: هل يمكن أن يكون اتفاق أوسلو، واحتمالات التقسيم في شكل حل الدولتين، قد أديا إلى تضخيم، بدلا من تقويض، أسس القومية الإثنية؟..
رغم ذلك، يبقى كتاب «الحرب على السلام»، كتابا لافتا في تحليله العميق لدور الثقافة والأيديولوجيا في تشكيل الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي.
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا