قبل أن تحسم صناديق الاقتراع اسم الرئيس الـ46 للولايات المتحدة الأمريكية، هل هو الجمهوري دونالد ترامب الذي أثار جدلا كبيرا خلال سنوات رئاسته، أم منافسه الديمقراطي جون بايدن الذي رجحت استطلاعات الرأي تفوقه، عاد إلى الواجهة اسم جورج واشنطن أول رئيس لأمريكا، بوصفه الرئيس الذي حظى بشعبية لم يحصل عليها أى من خلفائه، واحترم الدستور الذي أشرف على إعداده، وأرسى مبدأ الانتقال السلمي للسلطة، في مقابل ترامب «المتهور» الذي أثار العديد من الأزمات وحذر من انتخاب منافسه وألمح إلى عدم تخليه عن السلطة في حال خسارته «بصراحة لن يكون هناك انتقال.. سيكون هناك استمرار».
قبل مائتين وأربعين عاما، لم يتوقع الآباء المؤسسون للدولة الأمريكية عندما اجتمعوا للاتفاق على شكل الدولة الجديدة وطبيعة الدستور وعلاقة الحاكم بالمحكومين، أن يصل شخص مثل ترامب إلى سدة الحكم، يشكك البعض في قدرات ترامب العقلية والمعرفية ويرى آخرون أنه غير مهيأ للحكم، كما يراه البعض رئيسا لا يكترث بالدستور أو التقاليد السياسية الأمريكية.
الكاتب الصحفي المتخصص في الشأن الأمريكي يقول في كتابه «ترامب أولًا: كيف يغيِّر الرئيس أمريكا والعالم؟»: أنه منذ تنصيب ترامب رئيسا في العشرين من يناير عام 2017 لم تتوقف معاركه وخلافاته مع كافة ألوان الطيف السياسي الأمريكي، من الديمقراطيين للجمهوريين، ومن الليبراليين إلى المحافظين، ومن المهاجرين إلى النخب، ومن المزارعين إلى رجال الدين، نجح ترامب في هز علاقته بالجميع.
«من بين 45 رئيسا عرفتهم الولايات المتحدة يعد ترامب الوحيد الذي لم ينتخب من قبل لأي منصب سياسي أو يخدم في القوات المسلحة الأمريكية قبل وصوله إلى البيت الأبيض، كل رؤساء أمريكا السابقين إما تم انتخابهم في مناصب سياسية مختلفة مثل مجلس النواب أو مجلس الشيوخ، وإما اُنتخبوا كحكام ولايات قبل وصولهم إلى أعلى قمة هرم السلطة»، يضيف المنشاوي في كتابه.
ويشير أنه على الجانب الآخر فإن الرؤساء السابقين ممن لم ينتخبوا في مناصب سياسية جمعت بينهم بلا استثناء الخدمة العسكرية وخوض الحروب، وأولهم جورج واشنطن الذي قاد حرب التحرير الأمريكية ضد القوات البريطانية وبعد انتقاله إلى الحياة المدنية تم انتخابه رئيسا. وهناك من جمع بين الخدمة العسكرية وتولي مناصب سياسية عبر الانتخاب مثل إيزنهاور وبوش وكارتر.
في النصف الأخير من عام 2018، أثارت لوحة رسمها الفنان الأمريكي جون منوتون تجسد ترامب مستوحاة من لوحة «جورج واشنطن يعبر نهر ديلاوير» التاريخية، موجة من السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي.
أظهر منوتون في لوحته ترامب داخل قارب يتسع لعدد من أفراد إدارته بشكل عصري، على عكس المظهر الكلاسيكي للوحة جورج واشنطن الأصلية التي جسدت حرب الاستقلال الأمريكية.
نشر منوتون اللوحة وعلق عليها قائلا: «يحاول ترامب عبور مستنقع واشنطن العاصمة، لأنه يحمل نور الحقيقة والأمل والازدهار. فالمياه العكرة في الدولة العميقة تعج بحشرات خطيرة، مستعدة تماماً لتدمير الرخاء الأمريكي من أجل إيديولوجياتها الشخصية ومصالحها المالية».
وبالرغم من مرور أكثر من مائتي عام على وفاته، استدعى المغردون الأمريكيون سيرة واقتباسات جورج واشنطن الذي تتحدث عنه الكتب المدرسية ويظهر اسمه على ورقة الدولار وتحمل عاصمة بلاده «واشنطن» اسمه، مع تعليقات ساخرة تنتقد آخر خلفائه الذي أهان المنصب وضرب بتقاليد السياسة الأمريكية عرض الحائط.
فمن هو ذلك الرئيس الذي استدعى الأمريكيون سيرته لمواجهة «القبح» الذي خيم على بلادهم في السنوات الأربع الأخيرة.
جورج واشنطن
ولد جورج واشنطن في مستعمرة فرجينيا البريطانية في 22 فبراير 1732، حيث كان والده أوغسطين واشنطن من أثرياء المزارعين، عرف جورج اليتم صغيرا، إذ توفي الأب وهو لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره، وعلى غرار أبناء العديد من المزارعين الأثرياء في ولاية فرجينيا، سعت والدة جورج إلى إرساله للدراسة في إنجلترا، لكن وفاة الأب ووصيته التي ترك بموجبها معظم ممتلكاته لابنه الأكبر، لورانس، الأخ غير الشقيق لجورج، حالا دون ذلك، ليضع الوضع الجديد حدا لتعليم جورج الرسمي وهو لم يتعد سن الخامسة عشرة.
في السابعة عشرة من عمره، عين جورج واشنطن مساحًا لمقاطعة كولبيبر في فيرجينيا، بفضل الخبرة التي اكتسبها أثناء مسح الأراضي غير المستعمرة، وربطه علاقات بأشخاص مهمين في الحكومة الاستعمارية لفيرجينيا.
بفضل شخصيته الكاريزماتية، تولى جورج واشنطن عام 1754 قيادة قوات فرجينيا المشاركة في الحرب الفرنسية الهندية التي دامت سبع سنوات، وقد نالت الولايات المتحدة بفضل تلك المشاركة، اعترافا دوليا بصفتها القيادية وشجاعتها.
وفي عام 1759 تزوج جورج واشنطن أرملة ثرية تدعى مارثا داندريدج كوستيس، واستقرا في ماونت فيرنون، حيث عمل على توسيع وتحسين حجم وإنتاجية مزارع أسرته الصغيرة هناك، وواصل عمله في البحث عن أحدث التقنيات والعلوم الزراعية، وتزيين حدائقه والحدائق المحيطة بمزرعته.
كان جورج واشنطن خصمًا للانفصاليين. وعندما اندلعت الثورة الأمريكية في عام 1775، عُين قائدا أعلى للجيش القاري، حيث تقاتل القوات المسلحة من أجل الاستقلال عن بريطانيا العظمى، وعلى الرغم من أنه خسر معارك أكثر من تلك التي فاز بها، فقد بلور جورج واشنطن خططا حربية كان لها صدى كبير في الحروب، مثل قيامه بعبور نهر ديلاوير الشهير يوم عيد الميلاد خلال معركة ترينتون عام 1776. وانتصاره في معركة يوركتاون في خريف عام 1781.
وفي نهاية الحرب، تخلى جورج واشنطن عن قيادته العسكرية وعن منصبه في كونجرس الولايات المتحدة، وقرر العودة إلى منزله الهادئ في ماونت فيرنون، لكن تقاعده لم يدم طويلا، إذ تم تعيينه عام 1787، رئيسا للمؤتمر الدستوري الذي أشرف على إعداد دستور للولايات المتحدة، كبديل عن نص الاتحاد الكونفدرالي، وهو دستور أحدث تغييرات عديدة في النظام السياسي في البلاد وأحدث منصب الرئيس.
وفي عام 1788، انتخب جورج واشنطن بالإجماع، أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية، وتولى هذا المنصب لولايتين رئاسيتين، أشرف خلالهما على إنشاء حكومة وطنية قوية ممولة بشكل جيدً. ويقول المؤرخون إن حكومته حافظت على الحياد في الحروب المستعرة في أوروبا، وقمعت التمرد.
وخلال ولايته أقر جورج واشنطن في عام 1790 مرسوما يحدد مقر الحكومة الأمريكية والذي ينص على تخصيص مقاطعة كولومبيا القريبة من نهر بوتوماك كمقر دائم للحكومة الأمريكية والتي سميت فيما بعد «واشنطن دي سي» لتصبح عاصمة الولايات المتحدة الأمريكية.
في عهده وبالتحديد عام 1794 اندلع تمرد عرف بتمرد الويسكي والذي سببه فرض ضرائب على الويسكي في غرب بنسلفانيا، وفشل التمرد وتم القبض على اثنين منحهما واشنطن عفوا رئاسيا.
أنشأ جورج واشنطن أثناء قيادته العديد من الأعراف والتقاليد الحكومية التي لا تزال قائمة، مثل نظام مجلس الوزراء ويوم القسم الرئاسي ولقب السيد الرئيس. كما أرسى مبدأ الانتقال السلمي من منصب الرئيس، لصالح جون آدامز، بعد ولايتين، وهو العرف الذي استمر حتى عام 1940، انتخب بعدها فرانكلين روزفلت لثلاث ولايات رئاسية، لكن تقليد الاكتفاء بولايتين رئاسيتين فقط سرعان ما عاد، وتم إدراجه في تعديل دستوري عام 1951، والذي تحدد بموجبه فترات الرئاسة لنفس الشخص، في ولايتين فقط.
عاد جورج واشنطن إلى ماونت فيرنون، بعد انتهاء ولايته الرئاسية الثانية، حيث واصل العمل في مزرعته. كما بدأ أعمالًا تجارية جديدة، بما في ذلك إنشاء مصنع للخمر، أصبح مع حلول عام 1799، من أكبر الشركات في الولايات المتحدة.
توفي جورج واشنطن في 14 ديسمبر من عام 1799، تاركا وصية حرر بموجبها العبيد الذين كان يمتلكهم، وكتب في وصيته بأنه كان «الأول في الحرب، الأول في السلام والأول في قلوب رفاقه المواطنين»، وهو تعبير أضيف إلى المقولات الشهيرة التي تنسب لجورج واشنطن، ومنها: «نريد أن نبني دولة قانون لا دولة أشخاص.. وعندما تتأصل جذور الحرية تصبح سريعة النمو.. والتعليم هو المفتاح الذي يفتح لنا الباب الذهبي لبلوغ الحرية».
مراجع:
كتاب «ترامب أولًا: كيف يغيِّر الرئيس أمريكا والعالم؟» : محمد المنشاوي
موقع قناة الحرة الأمريكية
موقع إذاعة مونت كارلوا الدولية