قبل 85 عاما من قيام أشرف و أطهر وأعظم ثورة عرفتها الإنسانية، ولد «الأستاذ» يوسف شاهين الذي رفع اسم مصر في السينما العالمية، وحلق بالسينما المصرية نحو آفاق أبعد مما يطمح إليه واقعها المتدهور و إمكانياتها المنهكة.
الذي أسس عبر سنوات من العمل المضني والتفاني مدرسة سينمائية خاصة بحيث لم يعد مخرجا أو ممثلا أو منتجا أو كاتبا للسيناريو فقط لكنه أصبح وبصورة أشمل «رجل سينما» حسب التعبير الشائع.
«المشاكس» الذي تنبأت آخر أعماله «هي فوضي» بثورة الجماهير على أقسام الشرطة اعتراضا على الظلم والقهر الذي تمارسه ضدهم، كما أشار الفيلم أيضا للفساد الذي ضرب جوانب كثيرة في المجتمع من قبل سلطة فاسدة وغيرها من القضايا التى كانت سببا مباشرا لقيام ثورة يناير المجيدة التي راحت تنادي بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وغيرها من القيم التي عاش شاهين يدافع عنها من خلال أفلامه التي عبرت عن إنجازاته و رؤيته للحياة والبشر.
«المتمرد»،عصفور الحرية، صاحب الأرض والناصر صلاح الدين، الذي حكي عن معشوقته الإسكندرية، و عري ذاته لصالح صورته الإنسانية المنفتحة على أفق أوسع، فهو لم يكن يكتب سيرة ذاتية فقط بل جانبا من تاريخ الحياة والناس، محذرا في «المصير» من ضرورة الانتصار لحرية الفكر في مواجهة القمع ومصادرة الرأي .
اتهامات
شاهين المولود في الإسكندرية في 25 يناير من العام 1926 كان دوما مهموم بالإنسان بشكل مطلق «لا يهمني اسمك.. لا يهمني عنوانك..لا يهمني لونك.. ولا ميلادك مكانك..يهمني الإنسان ولو مالوش عنوان»، حياته «دراما» رهيبة عاشها بكل ما فيها من فرح، قسوة، مرارة ونجاح والأهم أنه لم ينكسر و ظل صامدا، واقف «كما النخل باصص للسما ».
حياته/ أفلامه سلسلة من المعارك و الاتهامات ربما أبرزها أنه سفير للفرانكفونية و يمارس عبر أعماله لعبة التغريب للفكر الأوروبي والفرنسي تحديدا، كذلك اتهامات التطبيع التي حاصرت عدد من أفلامه بدءا من إسكندرية ليه ؟ (حصد الفيلم جائزة الدب الفضي من مهرجان برلين السينمائي الدولي) لكونه تغني خلاله بالتعددية الطائفية و الدينية، وروح التسامح الاجتماعي و العرقي التي عرفتها الإسكندرية حتى الأربعينيات، ومن ثم تصور البعض أن «جو» على طريق ردة رجعية وليدة نظرة التقرب العربي الصهيوني بعد معاهدة السلام.
ثم جاء فيلم «وداعا بونابرت» بمثابة دليل آخر على تمجيد شاهين للغرب و خضوعه لشروط التمويل الأجنبي وقد استدل أصحاب هذه الآراء على ذلك من خلال العلاقة التي نشأت بين الشباب المصري «علي» والقائد والعالم الفرنسي «كافاريللي»
https://www.youtube.com/watch?v=8harCJCLja8
فيلم «المهاجر» هو الآخر حلقة أخرى من الصراعات و الاتهامات بدأت باعتراضات الأزهر الشريف قبل تصويره بعد تسرب أخبار عن تجسيده سيرة النبي يوسف، و بعد عرضه وقف شاهين أمام القضاء للمحاكمة بتهمة الإساءة للأديان ، حتى بعد تبرئته منها لاحقا لاحقته تهمة التطبيع والترويج للصلح مع إسرائيل بعدما تم تشريح الفيلم “فكريا” لكون البطل الإسرائيلي «رام» شخصية متكاملة تجمع كل الفضائل والمهارات أما المصريون فهم مشغولون عن الحياة بالموت، وعن الدنيا بالآخرة، وحاكمهم الفرعون غير متزن عقليا وقائد جيشهم عاجز جنسيا وكبيرة كهنتهم التي ترمز في رأيهم لمصر فاجرة تراود الرجال عن أنفسهم، والذي ينقذهم من المجاعة هو «الإسرائيلي»، وهذا يعني أن يوسف شاهين يروج بذلك للسوق الشرق أوسطية، ويبرر التعاون والتعايش مع إسرائيل.
عاصفة الاتهامات لم تهدأ خصوصا بعدما انتشرت عدة أخبار عن مشاركة شاهين في مهرجان القدس و الذي تنظمه إسرائيل، و قد نفي الأستاذ أي علاقة له بهذا الأمر قائلا عبارته الشهيرة «لقد اغتصبوا أفلامي مثلما اغتصبوا أرض فلسطين، ومن يقدر على رفع قضايا ضدهم وتعويضي عن هذه السرقات فليساعدني في ذلك».
وفي الواقع كان شاهين معاديا لدولة الاحتلال، ويخرج ضدها في كل المظاهرات، بل ذهب إلى حدود رفح وتم تصويره وهو يلقي الحجارة على جنود الاحتلال تضامنا مع أطفال انتفاضة الحجارة في فلسطين.
الوعي
اعترف شاهين في العديد من حواراته أن وعيه السياسي جاء متأخرا خطوات عن وعيه الفني والإنساني وأنه انحاز بالفطرة لقضايا اجتماعية ، بدليل أن «باب الحديد» أحد أفلامه المبكرة كان مشغولا بقضايا العدالة الاجتماعية حيث ناقش الفيلم هموم العمال الذين يسعون لتشكيل نقابة لهم، وفي «الأرض» طرح حق الفلاحين في عرقهم وجهدهم، حتى فيلمه الثاني «ابن النيل» صاغه من منطلق تذمره و سخطه علي الأحلام البرجوازية لعائلته والتي كانت تري الأثرياء هم النموذج و خيرة الناس على حد توصيفه.
https://www.youtube.com/watch?v=RcKB6UgZ5BU
جدير بالذكر أن هذا الفيلم سيظل وثيقة بصرية تحكي كيف كانت تتعرض الأراضي للغرق قبل بناء السد العالي ، وقد أصر شاهين على الرغم من حداثة سنه ووعيه السياسي و المجتمعي حينها، أصر علي أن يتم التصوير في الأماكن الحقيقية و أثناء الفيضان فعلا ليكون بذلك أول فيلم واقعي يرصد هذه الأحداث والأراضي التي لم تعد موجوده فيما بعد.
حتي فيلمه «جميلة» أول تعامل مباشر مع قضية سياسية لم يكن متحمسا له في البداية لكنه اضطر لتنفيذ تحت إلحاح بطلته ومنتجته في ذات الوقت الفنانة ماجدة، و بعد سنوات اعترف شاهين أنه لو قدر له إعادة تقديمه حتما سيكون مختلفا، حتي الناصر صلاح الدين الذي نفذه تحقيقا لرغبة أستاذه عز الدين ذو الفقار والذي رشحه لإخراجه وهو علي فراش الموت، وقد وفرت له الدولة المصرية حينذاك كل الإمكانيات، بدءا من إنشاء المؤسسة المصرية العامة للسينما للمشاركة في إنتاجه (قدمت المؤسسة فيما بعد عدد كبير من الأفلام المتميزة) ووضعت تحت تصرفه أعدادا هائلة من الجنود للمشاركة في مشاهد المعارك، وغيرها من التفاصيل التي تضمن خروج الفيلم في أفضل صوره، ما يشير لفهم «الدولة» لأهمية السينما ودورها.
الوعي الذي اكتسبه الأستاذ لاحقا مكنه من انتقاد الهزيمة العسكرية في أفلام مثل الاختيار والذي ناقش خلاله علاقة المثقف بالسلطة، تحديدا «انفصامية» المثقف/الكاتب حينما لا ينتصر للناس و قضاياهم في إدانة مباشرة لهم كانت قد بدأت على استحياء في فيلمه «الأرض»، ما يفسر اعتبار هذه الأفلام إضافة «للعصفور» و «عودة الابن الضال» «رباعية الهزيمة» التي انتهت بتحذيره من انفجار العائلة العربية و تفسخ أوصالها في الضلع الأخير من هذه الرباعية «عودة الابن الضال» .
فيما سيظل فيلم «إسكندرية كمان و كمان» وثيقة أخري هامة على حالة الفصام تلك التي يمرض بها البعض من المثقفين، حيث تناول من خلاله قضية الديمقراطية و أزمة ما سمي القانون 103 الخاص بالترشح للنقابات الفنية وكيف اعتصم شاهين وعدد كبير من النجوم والسينمائيين لإسقاط هذا القانون الذي وصف بالمشبوه.
العديد من الجوائز و التكريمات حصدها الأستاذ علي مدي مشواره السينمائي لكن سيظل أبرزها تتويجه في مهرجان كان عام 1997 عن مجمل أعماله (الإنجاز العام) و التانيت الذهبي من أيام قرطاج السينمائية عن فيلم «الاختيار» عام 1970، إضافة للدب الفضي من برلين العام 1979 عن فيلمه “إسكندرية ليه؟”