يأتي وابل الهجوم اللفظي التي أطلقه تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مؤخرا ضد تنظيم القاعدة في خضم حروب فصائلية طويلة الأمد بين الجماعات التابعة للتنظيمين الكبيرين على جبهات جهادية عديدة تمتد من مناطق الساحل الأفريقي في الشمال والغرب وليبيا والصومال إلى اليمن وسوريا وأفغانستان.
ويلفت الفيلم الوثائقي الذي نشره تنظيم الدولة الإسلامية في أبريل 2020، باسم “معذرة إلى ربكم” الانتباه إلى هذه الصراعات، ويؤطر لها كانقسامات حادة بين التزمت (التطبيق الحرفي والمتجرد للنظرية) والشعبوية، حيث يصف هذا الوثائقي تنظيم الدولة بأنه ملتزم تماما بالعقيدة السلفية الخالصة، بغض النظر عن الكلفة والعواقب، بينما يقدم القاعدة باعتباره تنظيم منحرف عن النهج السلفي سعيا وراء شعارات ثورية زائفة ودعم شعبي وهمي.
بناء دولة “إسلامية” وتطبيق الشريعة “الإسلامية”
يتسم أول موضوعين يناقشهما الفيلم الوثائقي، الصادر عن تنظيم الدولة الإسلامية، بالتكامل التام فيما بينهما. فتنظيم الدولة يتهم القاعدة برفض تحمل ما يعتبره مسئولية تاريخية لبناء دول “إسلامية” في الأقاليم الخاضعة لسيطرته وتطبيق الشريعة “الإسلامية” في هذه الدول. وبدلا من ذلك، يزعم تنظيم الدولة أن القاعدة قد سلم “ثمار الجهاد” لإسلاميين مبتذلين يتمسكون بأفكار الدول الديمقراطية المدنية، أو – وهو ما يعد أيضا غير مقبول بالدرجة ذاتها من جانب تنظيم الدولة – إلى لجان شعبية تتألف من خليط من الإسلاميين والقوميين العلمانيين والاشتراكيين والرموز القبلية.
بالنسبة إلى تنظيم الدولة، تمثل هذه القوى “قوى التجديف والارتداد” التي لن تسمح أبدا بتطبيق الشريعة “الإسلامية”. كما يصف الوثائقي تنظيم القاعدة بأنهم “استبدلوا طاغوتا بآخر، واستبدلوا المشركين بآخرين أكثر تجديفا”. وبحسب الوثائقي، فإن تنظيم القاعدة ينتظر بحماقة بالغة أن تتعاون معه هذه الفصائل، لكنه – آجلا أو عاجلا – سوف “يجني الحصاد المر” لخيانته، حيث سيوجه هؤلاء الحلفاء بنادقهم صوب الجهاديين كما فعلوا في العراق وسوريا ومالي وليبيا والسودان. والأسوأ من ذلك، كما يؤكد الفيلم، أن القاعدة يبرر ضلاله باسم التسامح والتدرج، في الوقت الذي يسخر فيه من الموحدين الحقيقيين (أي أعضاء تنظيم الدولة الإسلامية) و”يقاتلهم في كل حدب وصوب”.
لا شك أن الجدل الدائر حول إقامة دول “إسلامية” ليس جديدا. وقد اختلف الجهاديون حول زمان ومكان إقامة دول “إسلامية” في الجزائر والعراق وسوريا في العقود الثلاثة الأخيرة. وبرغم أنهم جميعا يتشاركون طموح إحياء الخلافة “الإسلامية” التي توحد الأمة الإسلامية عبر الحدود، إلا أنهم لا يتفقون حول ما إذا كان هذا الهدف يمكن تحقيقه على الفور. وبناء على ذلك، فهم يختلفون حول الأولويات الاستراتيجية الضرورية لتحقيق هذا الهدف بعيد المدى.
ومن خلال الفكر الجهادي العام يمكن التمييز بين ثلاث رؤى منفصلة حول قضية الدولة الإقليمية. تصدر الرؤية الأولى عن تنظيم القاعدة الذي يرى أن إقامة دول “إسلامية” لا يمثل أولوية في الظرف الراهن، بل ربما يأتي بنتائج عكسية. ومن ثم، فإن الأولوية يجب أن تكون لدعم الثورات ضد الأنظمة المتجذرة وحرمان النخب المعادية للثورات من استغلال فزاعة الجهاديين لتقويض الدعم الشعبي لهذه الثورات. ويعتقد تنظيم القاعدة أنه يجب أن يستغل هذه الفرصة لترسيخ حضوره التنظيمي – حتى لو من خلال تنظيمات ’واجهة‘ غير مباشرة – وأن يقدم دعمه وخبراته في تعزيز التحول الثوري.
وتتضمن هذه الاستراتيجية التراجع عن مطلب إقامة دولة “إسلامية”، وبناء – بدلا منها – تحالفات تكتيكية مع الثوار المحليين، وتنحية ما بين الفريقين من اختلافات أيديولوجية، والامتناع عن السياسات المثيرة للجدل التي قد تؤدي إلى تنفير السكان المحليين، بما في ذلك القتل على أسس أيديولوجية، وهدم الأضرحة الصوفية، أو الحكم بقوانين “الشريعة” الصارمة.
وتصدر الرؤية الثانية عن الجهاديين المحليين المنخرطين في الحروب الأهلية. ويشمل هؤلاء حركة طالبان في أفغانستان وأحرار الشام في سوريا، من بين جماعات أخرى كثيرة، حيث تقاتل هذه الجماعات من أجل إسقاط النظم الحاكمة في بلدانها وبناء دولة “إسلامية” على أنقاضها لا تخرج عن إطار الدولة القومية الحديثة. وتنحصر رؤيتها الإقليمية في الحدود القائمة، ولا تعبأ بالمخاطرة بوحدة أراضي دولها وبالتالي، فهي بوجه عام تمسك عن الحديث عن الخلافة “الإسلامية” التي تعد بإنهاء النظام الويستفالي للدول ذات السيادة.
وتصدر الرؤية الثالثة عن تنظيم الدولة الإسلامية، وتنطوي على طموح استعادة الخلافة “الإسلامية” على الأراضي والأقاليم التي قسمتها أيدي القوى الغربية بعد الحرب العالمية الأولى (ما يسمى ’حدود سايكس بيكو‘). ولا يعبأ تنظيم الدولة كثيرا بسيادة الدولة، أو الاعتبارات السياسية المعقدة للفصائل الإسلاموية المحلية، أو مصالح القوى الخارجية.
وبينما يسعى تنظيم القاعدة وغيره من الإسلاميين إلى العمل بالتعاون مع شعوبهم المحاصرة والمنهكة من أجل كسب قلوبهم وعقولهم، لا يعبأ تنظيم الدولة كثيرا بهذه النزعة الشعبوية، ويقدم بدلا منها رؤية طليعية تسعى إلى تشكيل القلوب والعقول من خلال التكليف الإلهي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ونتيجة لذلك، يستغل التنظيم أي فرصة لإنشاء دولة إقليمية من داخل وخارج حدود الدولة ذات السيادة، والحكم بقوانين الشريعة دون اعتبار للعادات المحلية والحساسيات الدينية.
رفض التحالفات غير المقدسة
وفقا للفيلم الوثائقي الذي نشره تنظيم الدولة الإسلامية في أبريل 2020، أقام تنظيم القاعدة تحالفات غير مقدسة مع أطراف لا تلتزم بالبنى والهياكل السلفية أو تستغل بشكل صارخ الجهاديين المحليين والأجانب دون توافر أي نية لديها للدفع قدما بمشروعاتهم الإسلاموية. ويسلط الوثائقي الضوء على التحالف الذي أقامه تنظيم القاعدة مع حركة طالبان “الوثنية” برغم “انحرافها وضلالها الواضح”. ويلقي تنظيم الدولة بهذه الاتهامات على حركة طالبان بسبب علاقاتها الوطيدة مع المخابرات الباكستانية “المرتدة” واعترافها بالجمهورية الإسلامية الإيرانية وحدودها. كما تتعرض طالبان لهذا الهجوم بسبب تفاوضها مع الولايات المتحدة بشأن اتفاق سلام في مقابل – بحسب الوثائقي – محاربة تنظيم الدولة الإسلامية.
وفي سوريا، يشير الوثائقي إلى أن جبهة النصرة – قبل أنفصالها عن تنظيم القاعدة – كانت تقيم تحالفات مباشرة مع فصائل مدعومة من دول الخليج وتركيا، العضو في حلف الناتو. ويؤكد أن هذا التعاون لا يبشر بإقامة حكم “إسلامي” حقيقي في المنطقة. وبالمثل، في اليمن، يسلط الفيلم الوثائقي الضوء على ما يزعم أنه تعاون وثيق ومباشر بين قادة تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية وقوات الحكومة اليمنية التي تقاتل ضد الحوثيين تحت راية تحالف تقوده المملكة العربية السعودية. ويقدم الفيلم هذه التحالفات على أنها تجمع بين فرقاء، وسوف تنتهي على الأرجح بالخيانة، وليس بإقامة نظام “إسلامي”.
ويتعرض الوثائقي أيضا لأيمن الظواهري بسخرية لاذعة باعتباره “سفيه الأمة” بعد أن أبدى – بحسب رواية تنظيم الدولة الإسلامية –تقديره واحترامه لحكومة جماعة الإخوان المسلمين في مصر قبل الإطاحة بها في عام 2013، وتعاطفه مع محنة زعيمها محمد مرسي بعد الإطاحة به. وبحسب تنظيم الدولة الإسلامية، فقد أضفى الظواهري الشرعية على فصيل يطلق عليه تنظيم الدولة “الإخوان المرتدون”، الذي “يأوي تحت مظهره الإسلامي المذاهب الجاهلية من قومية ووطنية وديمقراطية وغيرها”.
_______________
د. محمد حافظ – أستاذ شئون الأمن القومي في كلية الدراسات العليا البحرية في مونتيري، كاليفورنيا
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي ومراجع الدراسة باللغة الإنجليزية من هنا