كتب الإنسان أول ما كتب على ألواح من الطين. كان ينقش عليها وهي طرية بآلة حادة تشبه المسمار فسميت لذلك بالكتابة المسمارية Cuneiform. وبعد أن ينتهي من تسجيل أفكاره على الطين، أو ورق ذلك الزمان، كان يتركها تجف. ومنذ أن أخترع السومريون الكتابة المسمارية قبل حوالي 5600 سنة إلى أن وصلنا إلى عصر الكتابة الرقمية الذي نعيشه اليوم لم يكل الإنسان يوما عن الكتابة. كتب عن كل شيء وفي كل اتجاه. للحب والكراهية. للبطولة والجبن. لليأس والأمل. للوطنية والخيانة. للكفر والإيمان. للعلم والجهل. للملكية والجمهورية. لحقوق المرأة ولقمع المرأة. للتكامل والتفكك. للحرية والاستبداد. للمدح والاستهزاء. كتب باكيا وضاحكا. مسالما ومعاديا. مصارحا ومنافقا. كتب حتى يوضح ويبث ويطور ويخلد أفكاره. وما أخطر الإنسان عندما يكتب. حقا ما أخطره. فالكتابة في يده سلاح خطير. من لا يجيد استعماله قد يؤذي نفسه والآخرين. قد تنتهي بالمرء قتيلا أو سجينا أو منبوذا أو مطاردا. بالكتابة قد يوفر الإنسان الأدلة ضد نفسه ويضعها سهلة في يد مخالفيه. كما قد يجد في يده أدلة توفرها له كتابات مخالفيه. بالكتابة يصل الإنسان بالفكرة إلى قمة الاكتمال. وبها يحقق الانتشار ويتمكن من مخاطبة الناس. يعرض عليهم فكره ويسألهم الرأي. يبني من خلالها جمهورا. يحرك بها المشاعر. الكتابة أشعلت عبر التاريخ ثورات وأغضبت زعامات. قُتل بسببها أدباء وشعراء وصحافيين. الكتابة هي الكلام الذي لا يقوله اللسان ولا تسمعه الأذان. ومع ذلك تعد صكا ودليلا وبرهان. الكتابة منذ أن أختُرعت وهي تسهل التواصل بين الناس. لكنها بمرور الوقت بدأت تباعد بينهم. ولم يكن ذلك غريبا. فقد ازداد الكتاب عددا وتنوعوا لغةً وتباينوا فكرا واستقطب كثيرا منهم في آلات السياسة والأهواء الكبرى. أصبحت صراعاتهم أحيانا مخيفة بل وعنيفة إلى حد التحريض على التصفية والانتقام.
ظهرت الكتابة الانتقامية مبكرا. عرفتها البشرية منذ زمن الألواح الطينية. وتعرفها أكثر اليوم في عصر الألواح الالكترونية (التابلت). كتب سومريون ضد سومريين داعين للانتقام. فبعض من دانوا بالولاء للملك “آجا” ملك “كيش” دعوا للانتقام من “جلجامش” ملك “أوروك.” فقد رأى بعض كتاب مدينة “كيش” أن السماء عهدت لملكهم “آجا” بدفة الحكم بعد الطوفان. فرد كتاب “أوروك” بالدعوة إلى الانتقام. وبسبب لكتابة تحركت السياسة واستشاط الفكر ووقعت الحرب. ومن وقتها تقع الحروب لأسباب كثيرة من بينها الكتابة الانتقامية. كتاب يحرضون ويطالبون بالانتقام من كتاب مثلهم ومن وساسة. وساسة يحرضون ويطالبون بالانتقام من ساسة مثلهم ومن كتاب. البعض محيت آثاره من النقوش التي خلفها على ألواح الطين وعلى الصخور. والبعض الآخر محيّ تماما من الوجود. ومن السومريين إلى الفراعنة إلى اليونان إلى الفرس إلى عصرنا الحديث انتشرت الكتابات الانتقامية في وجه أقليات وعبيد ومهاجرين وقادة ومعارضين وشعوب وأديان بأكملها. حتى الفرد لم يسلم من الكتابة الانتقامية. في النظم الشمولية وحدها كانت كتابة التقارير الملفقة تنتقم بجبروت فتبعد كل يوم كثيرين وراء الشمس.
وكان الأمر سيهون لو بقيت الكتابة الانتقامية لونا هامشيا أمام الكتابات الإبداعية الراقية سواء في ميدان الأدب أو في حقل العلوم. لكنها انتشرت ولم تعد هامشية. ولا غرابة في ذلك. فالعصر عصر سيولة وقلق. ومع القلق يخشى الكل من الكل. وينتقم كثيرون من كثيرين. تصاعدت الكتابات الانتقامية حول العالم مع تمدد اليمين والقوى الشعبوية والدينية والقومية المتطرفة. زادت مع المد الديني المتشدد. انتشرت كلما فشلت الديمقراطية وازداد الاستقطاب. تعرفها عن قرب الدول الفاشلة والجاهلة والخاملة. يزداد اللجوء إليها بفعل الضغوط الاقتصادية اليومية البشعة وبفعل الهجرة وقلة الوظائف والبطالة. باتت ملحوظة بالذات في المناطق الحنظلية التي تسقي أبناءها المر. تتصاعد طالما أن الحرية الوحيدة المسموح بها حرية الكراهية. ففي مناخ وخطاب الكراهية والإقصاء والتهميش والتخوين والتكفير تجد الكتابة الانتقامية الحاضنة الأمثل لها. جرى الإقبال عليها في ظل ذلك التعقد المروع للعلاقات الإنسانية الذي أنتج حالة من خوف الجميع من الجميع. والخوف متى تحكم بالإنسان إلا ويدفعه إلى الكذب على الحقيقة وفعل كل شيء يؤمن به نفسه حتى لو كان الانتقام ولو بالكتابة.
ولأنها انتقامية لا حوارية، فإن هذا اللون من ألوان الكتابة يعد الأبشع على الإطلاق. ولو أمكن تصنيفها ضمن فئة من فئات الكتابة الثلاثة المتعارف عليها لوضعت مجازا في فئة الكتابات العاطفية affectionate . فهي تحريضية وعدائية. غاضبة تشعل نيران القلب وتخاطب أسوأ ألوان العاطفة في الإنسان: عاطفة التشفي والإبادة والاستئصال. تبعد كل البعد عن الفئتين الأخريتين للكتابة: المعرفية cognitive والتحليلية evaluative. فالكتابة المعرفية تعرفنا بما نجهل. تقدم لنا معلومات وبيانات وحقائق فترفع مستوى وعي الإنسان بالعالم وما فيه من مشاهد ووقائع سواء كانت علمية أو جغرافية أو تاريخية أو سياسية. ومثل هذه الأمور لا تقترب منها الكتابة الانتقامية بالمرة. وإن اقتربت فتنتقي من بينها ما يسند دعوتها للقمع والنكال. كما أن الكتابة الانتقامية لا علاقة لها أيضا بالنوع الثاني المعروف من الكتابة وهي الكتابة التحليلية. فهذه الأخيرة لون راق جدا من الكتابة يبحث بهدوء وموضوعية عن الأسباب ويربط التفاصيل ببعضها ضمن حزام من المنطق والمعقولية. أما الكتابة الانتقامية فعاطفية هوجاء تصب جام غضبها على أفراد وزمر وجماعات. عنيفة لا صلة لها بالمعقولية أو العقلانية.
ولا يحتاج المرء إلى مجهود كبير ليتبين كم باتت الكتابة الانتقامية واسعة الانتشار. فمن يتصفح مواقع التواصل الاجتماعي أو يقرأ الصحف بل وبعض الكتب سيجد ألوانا بشعة من الكتابات الانتقامية. تيارات فكرية كاملة لا زالت تحلم بإبادة الآخر. تستعدي الدولة على بعضها البعض. وتستعدي دول ضد دول. وتحث المجتمع على النكال بمن يخالفها الرأي. وسيجد أيضا فتاوى دينية شديدة التوحش تبرر الموت والقتل وتنتقم من شرائح سكانية ومن عادات وتاريخ كامل. وسيجد أصواتا علمانية زاعقة تطالب بالانتقام باسم الحداثة واستئصال التقاليد البالية ومن يتمسك بها. تصادفنا كتابات انتقامية عن التاريخ. تهيل التراب على أسماء بعينها ومراحل بعينها. وأخرى عن السياسة تنتقم من كل من يخالفها فتخون وتبرر نزع الجنسية وتصفية الممتلكات الشخصية. حتى الموسيقى والفنون والرياضة والطهي والسينما والمسرح والسياحة والآثار تسربت إليها الكتابات الانتقامية.
ولا يزيد عن خطورة مضمونها إلا انتشارها السريع. فهي كتابات ساخنة تجذب الانتباه إليها بسرعة وتعبئ حولها الغاضبين والمتوترين والباحثين عن كبش فداء يعلقون عليه مشكلاتهم. هي كتابات استقطابية بامتياز. تقسم المجتمع إلى فرق متنابذة وتحدث حالة واسعة من التشرذم. كتابات غادرة وليست محاورة . غاضبة وكاذبة وجاذبة. تدعو إلى الأخذ بالثأر خارج نطاق القانون والعقل والعرف والذوق والمنطق والمثل والأخلاق. يمارسها متعصبون لا مثقفين. لا تتحاور مع الرأي الآخر ولا حتى مع نفسها. لا تناقش الموضوع وإنما تطعن في الأشخاص. لا تهتم بالمعلومات وإنما تهزأ بالشخصيات. لا تبني عقلا ولا وطنا. تتشفى وتوغل في نحر المعرفة. تبث الكراهية وتحفز الناس على العداوة بل والقتل. ولم تعد الكتابات الانتقامية مجرد مقالات مفردة بل خطابات فكرية انتقامية كاملة ترفض التعايش والتنوع وتدافع عن الإقصاء. وما زاد الطين بلة في منطقتنا أن الطبيعة السلطوية للدولة العربية ترحب بتلك الكتابات الانتقامية طالما أنها تُطلق في وجه كل من يتحدى الدولة من أفراد وجماعات ودول. أصبح في المنطقة العربية اليوم صحفا انتقامية وتلفزيونات انتقامية وإذاعات انتقامية. ولم يعد الانتقام يحدث فقط بالكلمة المكتوبة وإنما بكل شيء ممكن حتى لو كان بالغناء والرقص والتمثيل.
وبجانب الطبيعة المزاجية الحادة لأهل المنطقة وما تضمره من ميل إلى الانتقام من المخالفين فكريا، ساعد على انتشار الكتابات الانتقامية وجود أرتال من أنصاف المتعلمين والعاطلين المستعدين للقيام بأي عمل طالما أنه يدر إيرادا. فالكتابة الانتقامية شكل من أشكال الاسترزاق. يتربح من ورائه مأجورون يجيدون فنون التشبيح والإبادة. أكثرهم يكتب للمال وللمصلحة. قد يكتب بعضهم عن قناعة لكنها قناعة الجاهلين بمعنى وقيمة الآخر. الكاتب الانتقامي مثل السفاح المكلف بمهمة قذرة عليه أن يقوم بها نظير أجر. وقد يزايد بعض هؤلاء الجهلاء والحمقى على بعضهم بل وعلى من كلفهم بالانتقام فيندفعون بجنون في مطالباتهم الانتقامية. يكتبون ما لا يُعقل أو يُقبل. يشوهون شخصيات لها تاريخ ومصداقية. ينددون بما استقرت عليه البديهيات الوطنية. يعتبرون إيذاء الغير نقدا والاستهزاء بالتاريخ معرفةً. يكتبون ضد من يخالفهم أو يختلف مع من كلفهم بالهجوم كلاما مسفا مجحفا يدعو إلى الاعتقال والتصفية والإسكات وإهالة التراب على الغيورين على المال العام أو من يقدم رؤية نزيهة عن مستقبل بلد منهوب.
الكتابة الانتقامية شريرة. فقيرة لكنها ساخنة. تستخف برسالة الكتابة من الأصل. تضع القلم في يد من لا يستحقه. لهذا فهي خطرة للغاية، لأنها تطلق شرارة حروب أهلية أولا على الورق قد تتحول فيما بعد إلى حروب أهلية في الشوارع. الكتابات الانتقامية حالة من العنف اللفظي المكتوب توازي حالة العنف اللفظي المنطوق. هي انحراف شديد بمعنى الكتابة واغتيال كامل لرسالتها. تستنزف الجهد والمال والطاقة في صناعة الموت الثقافي. تغتال التعايش السلمي في أي مجتمع. لا ترتقي بالعقل ولا تنقي جوا. هي أحد أسباب التخبط الذي تعيشه بلدانا كثيرة اليوم. لقد حاول الإنسان بالكتابة أن يعلم ويتعلم. لكنه بالانزلاق إلى الكتابات الانتقامية راح يؤلم ويتألم. الكتابات الانتقامية لا تصنع السلم الأهلي ولا تفتح مجالا عاما. الكتابات الانتقامية أولها شر وأخرها نار.