أعاد مقتل المناضل الفلسطيني نزار بنات على يد قوات أمنية تابعة لما يُعرف بالسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية قضية باتت سمة متكررة في تجارب الاستعمار الأجنبي والتحرر الوطني وهي قضية الاغتيال بالوكالة٫ و بعبارة اخرى مقتل مناضلين ضد الاحتلال الأجنبي لبلادهم لا على يد المحتل نفسه وإنما على يد بعض من بني جلدتهم في موقف ينوبون فيه عن المحتل.
حرَّاس “الباطل “
في أغلب تجارب الاستعمار الأجنبي فيما يٌعرف ببلدان العالم الثالث٫ فإن المحتل والناهب يأتي بجيوشه الى قُطر بعينه ليحتل أرضه ويفرض سيطرته عليه ويكرس وضعاً اقتصادياً يمكنه من نهب ثروات ذلك القُطر الطبيعية.
إلا أن الجيوش الغازية لا يمكن لها أن تحفظ أمن المحتل خاصة إن كان الاستعمار إحلالياً على طريقة الجزائر و فلسطين٫ اذ أن استخدام الجيوش لكي تكفل الأمن للمحتل والمستعمرين القادمين من بلدانهم الأصلية في ركابه إلى البلد المُستعمَر هو أمر ذو تكلفة عالية٫ قد تفوق أية مكاسب يحصدها المحتل من عملية النهب للبلد المُستعمَر.
كما أن المحتل لا يستطيع أن يُحوِّل جيشه الى “شرطي” يحفظ الامن معرضاً ذلك الجيش لمقاومة السكان الأصليين والتي من شأنها أن توقع خسائر في قواته لا سيما إن كانت تتبع أسلوب حرب العصابات الذي لا يعتمد على المواجهة المباشرة بقدر ما يعتمد على الضربات الخاطفة.
لهذا السبب تحديداً٫ يلجأ المحتل الى الاستعانة بكتلة من السكان الأصليين ويحيل أفراد هذه الكتلة – التي نجح في فصلها عن نضال البقيه من اجل التحرر- إلى حراس لعمليات النهب والاستيلاء والمصادرة التي يمارسها بحق مواطنيهم.
من هنا يمكن فهم لماذا اعتمدت ألمانيا النازية على حكومة “فيشي” العميلة لها بقيادة الجنرال بيتان لكي تُحكم سيطرتها على فرنسا بعد احتلالها لذلك البلد الأوروبي في عام ١٩٤٠ ولماذا اعتمدت فرنسا نفسها على “الحركيين” في الجزائر ليكونوا أداتها من أجل قمع المناضلين الجزائريين إبان ثورة الجزائر التحررية ما بين عامي ١٩٥٤ و١٩٦٢ولم وضعت الولايات المتحدة ثقلها وراء حكومة وجيش سايجون التابع لها إبان حرب فيتنام الضروس.
في أغلب الأحيان يكون هذا التابع المحلي الذي تم تدريبه بشكل مكثف على يد المُحتل أكثر شراسة من المحتل نفسه تجاه بني جلدته وخاصة المقاومين٫ ذلك أن المستعمر نجح في إلحاقه به وجَعَلَ ولاءه له وبالتالي فانه يرى مصلحته مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالمستعمر، وخير تجسيد لهذه العلاقة هي مشهد المروحية الامريكية وهي تغادر مبنى السفارة الأمريكية في سايجون عقب سقوط المدينة في يد الثوار الفيتناميين عام ١٩٧٥ إذ سعى أفراد حكومة وجيش سايجون للحاق بسادتهم الأمريكيين وركوب تلك المروحية إلا أن سادتهم كانوا يبعدونهم بالقوة ويتركونهم لمصيرهم.
أكياس الرمل
لم يكن من المستغرب أن يلجأ الكيان الصهيوني٫ وريث التجارب الاستعمارية السابقة٫ الى هذا الاسلوب ايضاً٫ اي الاحتلال بالوكالة.
فحين اصطدم الصهاينة بمقاومة شعبية شرسة في جنوب لبنان في الثمانينات٫ لجأوا إلى حلفائهم الذين سبق واعتمدوا عليهم لارتكاب مجازر في مخيمات صابرا وشاتيلا وكونوا منهم “جيشاً” قاده سعد حداد أولاً ثم انطوان لحد وكانت المهمة الموكلة الى هذا “الجيش” المزعوم هي قمع مقاومة الأهالي التي بدأت تتعاظم وتأخذ شكلاً منظماً.
وعلى طريقة “الحركيين” في الجزائر٫ أوكل إلى هؤلاء العملاء عملية تعذيب أسرى المقاومة في معتقل الخيام سيء السمعة وفاقوا في ساديتهم ضد المقاومين سادتهم من الصهاينة.
ولأن الوكلاء المحليين هم في جوهرهم أكياس رمل يحتمي خلفها جيش الاحتلال من ضربات المقاومة الشعبية٫ فان مشروع الصهاينة في الجنوب تهاوى مع سقوط عملائهم واحداً تلو الآخر٫ حيث عصفت عبوات المقاومة الناسفة بمشروع الصهاينة الذي كان يهدف إلى تسليم الجنوب لهؤلاء الوكلاء حين قتلت العميل عقل هاشم في مطلع العام ٢٠٠٠ وفي صيف ذلك العام اكتمل سقوط الوكلاء العملاء مع انسحاب الصهاينة الذين -تماماً مثل الأمريكيين- تركوا “حلفاءهم” لمصيرهم.
لا تختلف اتفاقيات أوسلو الموقعة بين أطراف فلسطينية والدولة الصهيونية في جوهرها عن هذا النموذج٫ فقد كرست منذ العام ١٩٩٤ لنوع من الاحتلال بالوكالة ايضاً لا سيما في الضفة الغربية.
أدرك الصهاينة استحاله احتفاظهم بأراض لا يستطيعون السيطرة عليها بالقوة العسكرية وتواجههم فيها منذ عام ١٩٨٧ انتفاضة شعبية هائلة تتفنن في ابتكار أساليب جديدة للنضال والمقاومة٫ فكان البديل المحلي : سٌلطة تتولى قمع هذه الانتفاضة واعتقال المطلوبين للاحتلال نيابة عن المحتل.
وتحت مسمى “التنسيق الأمني” صار وصول الصهاينة الى من ينفذون عمليات مسلحة ضد جيش الاحتلال أمراً يسيراً في ظل وجود طرف محلي يمد المُحتل بالمعلومات٫ وهو ما يسر للمحتل الوصول لمقاومين في الضفة الغربية من أمثال الشهيد باسل الأعرج والشهيد احمد جرار وغيرهم.
بل ان الوكيل المحلي ذهب خطوة أبعد في حالة المناضل نزار بنات٫ ذلك النجار البسيط المعروف بتاريخه النضالي ضد الاحتلال ورفضه لأوسلو وكل ما أفرزته٫ وصاحب الدعوة الى شباب فلسطين للمقاومة خارج إطار العمل الفصائلي كما جاء في رسالته بتاريخ 21 / 3 / 2017 «يا شباب فلسطين، لا تأبهوا بالتنظيمات كثيراً، دربوا أنفسكم بأنفسكم، كونوا ذئاباً منفردين، المعلومة متاحة، ثقف نفسك أمنياً، مارس الرياضة، جهز نفسك لتكون مقاتلاً ولا تنتظر تنظيماً، وإلا سيغزو الشيب رأسك وأنت تتمنى أن تكون كما حلمت».
هنا قام الوكيل بما هو أكثر من مجرد إرشاد المحتل الى هذا المناضل٫ إذ أخذ على عاتقه تصفيته لصالح المحتل بعد ان عجز عن إسكات صوته.
فهل يكون قتل بنات الذي فجر مشاعر هائلة من الغضب المكبوت لدى أهل الضفة الغربية٫ هو القشة التي تقصم ظهر البعير بالنسبة ل”سلطة” محلية أبدى “رئيسها” ذات يوم استعداده للتنازل عن حق العودة وتعهد بمنع انتفاضة جديدة وأوصى بقتل من يطلق صواريخ على الاحتلال ومستعمراته؟