فن

الرُسل والصحابة على الشاشة…إبداع تحده المحظورات الدينية

يعود الجدل مجدداً حول تلك المسألة الشائكة التي شغلت العقل العربي منذ عقود طويلة وهي هل يجوز تجسيد الأنبياء والصحابة على شاشات السينما والتلفزيون؟

تلك المعركة الفكرية التي تتجدد كل حين على الرغم من تمسك المؤسسات الدينية فى عالمنا العربي بموقف ثابت لا يتغير وهو الرفض القاطع لتجسيد شخصيات الأنبياء والرسل وصحابة النبي محمد عليه الصلاة والسلام وآل بيته جميعهم  على شاشة السينما.

إلا أن المبدعين لا يرون فى ذلك الموقف سوى مظهر من مظاهر التزمت الديني غير المفهوم كما يعتقد الكثير من المفكرين وأهل الفن أن الأعمال التي تجسد شخصيات الأنبياء والصحابة قد تساعد في تقريب صورتهم إلى الناس وتقدمهم بشكل يليق بهم وتلقى تلك الأعمال الضوء على معجزاتهم ومدى المعاناة التي  واجهوها  في سبيل رسالتهم النبيلة وتعريف البشرية بالمبادئ الإلهية العظيمة.

من جهة أخرى فقد تجاوز المجتمع الغربي تلك الأزمة الفكرية مبكرا بعد مرحلة من الصعوبات والمصادرات من جانب رجال الكنيسة إلا أن الصراع توقف منذ فترة بعيدة وظهرت أعمال فنية كبيرة وعظيمة تجسد صورة السيد المسيح بكل تفاصيل حياته.

https://www.youtube.com/watch?v=6UUL1D-gc0Q

ومؤخرا جاء الجدل هذه المرة من الكويت حيث قررت وزارة الإعلام إجراء عاجلا «بحق فريق عمل أحد برامج القناة الثانية المخالف للوائح ونظم لجنة الخطاب الديني بالوزارة بعد أن قدموا برنامجا يجسدون خلاله شخصية سيدنا إبراهيم عليه السلام.

وأوضح بيان للمتحدثة باسم الوزارة أن الإجراء الإداري تَمَثّل في وقف بث البرنامج وإحالة فريق العمل إلى التحقيق لبيان أسباب المخالفة وعدم عرض العمل قبل بثه تلفزيونيًّا على لجنة الخطاب الديني في الوزارة؛ لافتة إلى حرص وزارة الإعلام الكويتية على عرض كل البرامج التي تتعلق بالجوانب الدينية على لجنة الخطاب الديني للتأكد من سلامتها من كل الجوانب

وكان عضو بالبرلمان الكويتي قد أثار الأزمة حين طالب بمنع عرض البرنامج مطالبا عبر “تويتر ” بضرورة وقف العرض وفتح تحقيق حول الواقعة و محاسبة المسؤول عن عرض البرنامج . وهذا ما حدث بالفعل.

ولم تكن تلك الواقعة هى الأولى فى عالمنا العربي ولن تكون الأخيرة على الأقل فى المدى الزمنى القريب فمؤخرا تابعنا أزمة المسلسل الإيراني “يوسف الصديق ” الذى تم عرضه فى عام 2008 وواجه المنع فى غالبية الدول العربية والإسلامية بعد ان رفضت مؤسسة الأزهر السماح بعرضه وطالبت بمحاسبة القنوات التي قامت بعرض المسلسل استناداً على حظر تجسيد الأنبياء بشكل عام .

https://www.youtube.com/watch?v=m1KtJVfvTIA

صراع قديم

وقد شهدت الساحة الفنية أزمات متعددة وخلافات حادة حول ذلك الأمر الشائك والمثير للخلاف دائما ولم تتردد المؤسسات الدينية – الإسلامية والمسيحية – فى التأكيد دوما وفى كل فرصة على موقفها – الثابت – الذى لا يقبل أى نقاش برفض تجسيد الأنبياء والصحابة وآل البيت النبوي وكذلك ترفض الكنيسة تقديم أعمال فنية تجسد شخصية السيد المسيح رغم أن السينما العالمية قدمت عشرات الأعمال التي حققت نجاحا كبيرا وبعضها تم عرضه فى بلدان الوطن العربي وصارت من كلاسيكيات السينما العالمية بداية من فيلم “الرب ” عام 1953 حتى فيلم “آلام السيد المسيح ” عام 2004

اجتهادات مختلفة

أما على الجانب الآخر  فقد شهد العالم العربي عدة أزمات بين المؤسسة الدينية من جهة وبين صناع الفن من جهة أخرى وامتد المنع ليشمل كل صحابة النبى محمد عليه السلام وآل بيته الشريف إضافة إلى جميع الرسل والأنبياء ورغم الرفض المؤسسي لتجسيد الأنبياء على الشاشة إلا أن عددا من رجال الدين قد أعلنوا قبولهم لفكرة ظهور الأنبياء والصحابة فى الأعمال الفنية ومن بين هؤلاء الدكتور سعد الهلالي الذى قال : ” في مداخلة مع الإعلامي محمود سعد، على قناة “النهار”، أن هناك فريقا يحرم تجسيد الأنبياء بشكل قاطع، وفريق آخر يعتبر الموضوع تمثيلا جزئيا مثل المعلم الذي يشرح مفاهيم بعض الأحاديث النبوية، وكلا الفريقين صحيحان ” .

وأشار إلى أن “حظر تجسيد الأنبياء في الأعمال الدرامية يلزم الأزهر وليس الشعب، قائلا: “إن الأزهر للعلم والتنوير وليس سلطة دينية “

من جانبها قالت الدكتورة “سعاد صالح ” أستاذة الفقه بجامعة الأزهر ” أنه لا مانع من تجسيد الصحابة والتابعين في الأعمال الفنية، بشرط أن نتحرى الدقة والصدق في الرواية، لكنها رفضت تجسيد الأنبياء والمبشرين بالجنة ” . هذا ما قالته في ندوة عن تجسيد الأنبياء والصحابة، في مايو 2012 عن فيلم “الرسالة”، قائلة إنه قدم الإسلام بصورة رائعة، وقدم الرسول والصحابة بصورة أروع، كما أشارت إلى مسلسل عمر بن عبد العزيز الذي قدمه الفنان نور الشريف، ووصفته بأنه قدم بصدق سيرة عمر بن عبد العزيز” .

https://www.youtube.com/watch?v=QpNrVswt2xU

من جانبه صرح الدكتور مبروك عطية الأستاذ بجامعة الأزهر فى مداخلة تلفزيونية إن تجسيد الأنبياء لا شيء فيه” مضيفا أنه ” يختلف مع الأزهر الشريف في رفضه لتجسيدهم، لأن كل العلماء الذين أفتوا بتحريم ذلك ليسوا على القدر الكافي من العلم “

جاء ذلك خلال حواره مع الإعلامي شريف عامر ببرنامج “يحدث في مصر مؤكدا أن” تجسيد الأنبياء جائز، ولكن مع إضافة عبارة أن هذه الصورة لا تجسد الشخصية الحقيقية لسيدنا محمد، على أي عمل يتم تصويره”

أشهر الأزمات

كثيرة هي الأعمال الفنية التي أثارت غضب المؤسسات الدينية وتدخلت لمنعها أو لتعديل بعض مشاهدها ومن بين تلك الأعمال نقترب من أشهرها وأكثرها إثارة للجدل حيث كان فيلم “الرسالة ” للمخرج مصطفى العقاد والذى عرض عام 1976 قد اثار أزمة حادة وقررت الرقابة منع عرضه في مصر بناء على طلب الأزهر الشريف ورابطة العالم الإسلامي  اعتراضا على تجسيد شخصية “حمزة بن عبد المطلب ” عم الرسول والتي جسدها الفنان الراحل عبد الله غيث واستمر المنع حتى عام 2018 بعد أن سمح بعرضه في بعض دور العرض بالدول العربية من بينها السعودية .

وفى عام 1981 تم منع فيلم “القادسية ” للمخرج صلاح أبو سيف وفيه ظهرت شخصية الصحابي “سعد بن أبى وقاص ” وقام بدوره الفنان “عزت العلايلي  وهو ما واجه انتقادات شديدة من مؤسسة الأزهر ..

وفى عام 1994 كانت الأزمة الأشهر والأكثر حدة بين صناع فيلم “المهاجر ” للمخرج يوسف شاهين وتأليف رفيق الصبان وبين مؤسسة الأزهر التي رفضت سيناريو الفيلم واعتبرت أنه تجسيد لشخصية سيدنا يوسف عليه السلام وقام شاهين بتعديل اسم العمل من “يوسف وأخوته ” إلى “المهاجر “

وأعاد صناع العمل كتابة السيناريو مرة أخرى فى محاولة للبعد عن حياة النبي يوسف عليه السلام والتقى شاهين بعدد من رجال الأزهر الشريف لشرح وجهة نظره

ووافقت الرقابة على تصوير الفيلم بعد أن أبدت بعض الملاحظات و تم تعديل سيناريو الفيلم، إضافة إلى وضع عبارة قبل بداية الفيلم تؤكد أن أحداثه لا تمت إلى قصة أو حادثة فى التاريخ، ولا تتعرض لشخص أى من الأنبياء وأنها مجرد رواية سينمائية لفترة خصبة فى التاريخ المصري القديم.

وعُرض الفيلم فى 3 سبتمبر 1994 إلا أن أحد المحامين حرك دعوى قضائية ضده  بدعوى أن شخصية بطل الفيلم «رام» تتطابق مع شخصية النبي يوسف التى وردت فى القرآن الكريم، واستطاع المحامي وقف عرض الفيلم بعد أن حصل على فتوى من الأزهر برفض تجسيد شخصيات الأنبياء

مما دفع يوسف شاهين إلى تحريك دعوى قضائية ضد الأزهر الشريف، وحصل على موافقة بعرض الفيلم، بعد تغيير بعض المشاهد .

ولم يتوقف الأمر عند رفض أو منع الأعمال الفنية التى تجسد حياة الأنبياء أو الصحابة بل إمتد إلى أمور أخرى حيث احتج عدد من علماء الأزهر على مشهد فى فيلم “سالم أبو أخته” عام 2014

وهو المشهد الذى يقوم فيه الممثل محمد الشقنقيرى الذى كان يقوم بدور ضابط شرطة بتمزيق  نسخة من صحيفة “صوت الأزهر” التى تصدر عن المشيخة وقد عبر الأزهر عن غضبة ورفضه واعتبره إسقاطا على الأزهر غير مقبول .

كما اعترضت المؤسسة الدينية على مشهد فى فيلم بالألوان الطبيعية للمخرج اسامة فوزى وهو من انتاج عام 2009 وتم رفض عرضه، بسبب شخصية بطل الفيلم الذى يتحدث إلى الله وكأنه صديق له، واحتواء الفيلم على كلمات تتنافى مع الدين من وجهة نظره وذلك قبل أن يتم تعديل بعض المشاهد للسماح بعرضه فى دور السينما.

وتكررت أزمات المخرج “أسامة فوزي ” مع الرقابة فى 2004 لكن هذه المرة كان الرفض من جانب الكنيسة المصرية التي تحفظت بشدة على سيناريو فيلم “باحب السيما ” وظل الأمر معلقا لسنوات حتى سمحت الرقابة بتصوير الفيلم وعرضه  إلا أن الغضب بين رجال الكنيسة لم يتوقف وهذا ما حدث مع المخرج عمرو سلامة عام 2014 فى وفيلم “لا مؤاخذة ” الذى اعترضت عليه الكنيسة بقوة .

منع أفلام عالمية

ولم يتوقف الأمر عند الأعمال المصرية أو العربية بل امتد المنع ليشمل  عددا من الأفلام العالمية مثل “ابن الله “عام 2004 بطولة الممثل البرتغالي ” ديوجو مورجادو ” وتم منع عرضه بعد اعتراض الأزهر الشريف.

وفى نفس العام تم منع عرض فيلم “آلام المسيح ” الذي كتبه وأنتجه ومثله وأخرجه ميل جيبسون باللغة الآرمية واللغات القبطية القديمة

كما رفض الأزهر عرض الفيلم الأمريكي “نوح “عام 2014 ورفض عرض الفيلم الأمريكي ” الخروج ” او “آلهة وملوك” للمخرج “ريدلى سكوت ” والذي تناول قصة خروج سيدنا موسي من مصر وأيضا تم منع عرض الفيلم الإيراني “النبي محمد ” عام 2015

مصادرات مسرحية

وامتدت الأزمات بين المؤسسات الدينية وصناع الفن إلى خشبة المسرح حيث تدخل الأزهر الشريف  لمنع عدد من العروض المسرحية من بينها شخصية الحسين التى كتبها الراحل عبد الرحمن الشرقاوي وفشلت كل المحاولات المتعاقبة فى الحصول على موافقة الأزهر

كما تم منع مسرحية “زيارة إلى الجنة ” للمخرج جلال الشرقاوي المأخوذة عن قصة دكتور مصطفى محمود ورغم حصول الشرقاوي على موافقة الدكتور محمد سيد طنطاوي – شيخ الأزهر آنذاك – إلا أن المشروع تم رفضه بعد وفاة طنطاوي

 كما رفض الأزهر ومن ثم الرقابة على المصنفات الفنية تقديم مسرحية “يوسف السباعي ” التي تحمل عنوان “نائب عزرائيل”.

صدام مستمر

يتواصل الصدام دون توقف بين رغبة صناع الفن فى مساحة أكبر  لحرية الإبداع وبين تمسك رجال الدين – الإسلامي والمسيحي – بموقفهم الرافض لتجسيد الشخصيات الدينية المقدسة على شاشات السينما والتلفزيون وأحيانا ما تمتد مساحة الرفض أو المنع لكل ما يرون فيه خروجا عن الثوابت الدينية من وجهة نظرهم وهذا ما يعتبره صناع الفن تقييدا لحريتهم ومصادرة للفكر ويتفق معهم فى ذلك عدد كبير من رموز الفكر والثقافة وداعمي حرية الراي والتعبير .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock