بعد شهور من سيطرة حركة طالبان على معظم الأراضي الأفغانية نهاية تسعينيات القرن الماضي، أثير خلاف بين موظفي السفارة الأفغانية في واشنطن على الحكومة التي من المفترض أن يمثلوها في الولايات المتحدة، هل هي حكومة الرئيس برهان الدين رباني الذي غادر البلاد قبل نحو عام أم حكومة الجماعة الأصولية الإسلامية التي سيطرت على العاصمة كابول وتخوض معارك ضد باقي الفصائل في الشمال.
المتحدث باسم الخارجية الأمريكية آنذاك جيمس روبين خرج في مؤتمر صحفي عقده في منتصف أغسطس عام 1997، ليعلن إغلاق سفارة أفغانستان في واشنطن، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة لا تعتقد أن هناك حكومة فعالة في البلاد وترفض مزاعم طالبان وآخرين بالتمثيل الوحيد، لكنه شدد على أن إغلاق السفارة لا يعني أن الولايات المتحدة ستقطع العلاقات الدبلوماسية مع كابول.
متحدث الخارجية الأمريكية قال أيضا أن بلاده تأمل في رؤية حكومة تمثيلية واسعة تحمي حقوق جميع الأفغان وتلتزم بالتزامات أفغانستان الدولية، مؤكدا أن قرار إغلاق السفارة الأفغانية «مدفوع برغبة الولايات المتحدة في البقاء على الحياد تجاه الأطراف المتحاربة».
قرار إغلاق السفارة الأفغانية في ذلك التوقيت جاء بعد محادثات أجراها سفير طالبان المعين لدى الأمم المتحدة عبد الحكيم مجاهد الذي فشل في إقناع الأمم المتحدة في نيويورك بتمثيل حكومة طالبان في المنظمة، كما فشل في إقناع الإدارة الأمريكية بالاعتراف بممثلي الحركة في واشنطن.
رفضت أمريكا الاعتراف بممثل طالبان في سفارة أفغانستان بواشنطن حينها سراج وردك، والذي حاول السيطرة على السفارة بعد مغادرة القائم بالأعمال يار محمد محبات.. وقررت إغلاق السفارة لـ«الحفاظ على حياد الولايات المتحدة في الصراع الأفغاني».
ظلت الولايات المتحدة مترقبة لفترة بعد سيطرة طالبان على العاصمة الأفغانية في تسعينيات القرن الماضي، ورفضت الاعتراف بالحركة لكنها لم تدعم التحالف الشمالي الذي كان يقوده الزعيم الطاجيكي ووزير الدفاع في حكومة رباني، أحمد شاه مسعود، فيما سارعت 3 دول بالاعتراف بالحركة وهي: باكستان وتلتها السعودية والإمارات، أما بقية دول العالم فظلت معترفة بالرئيس برهان الدين رباني، وبقيت السفارات الأفغانية في العواصم المختلفة ومنظمة الأمم المتحدة ترفع علم أفغانستان، ويمثل سفراؤها بلادهم في الاجتماعات والمحافل والدولية في تناقض واضح بين شرعية الواقع الموجود في أفغانستان؛ حيث تسيطر طالبان على الحكومة ومعظم أراضي الدولة وشرعية الاعتراف الدولي حيث يشغل ممثلو الحكومة السابقة كراسي أفغانستان في السفارات والمنظمات الدولية لأن حكومة طالبان لم يتم الاعتراف بها سوى من الدول الثلاث التي ذكرنا سلفا.
بعد تفجيرات سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام عام 1998، أمرت إدارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون بشن ضربات على معسكرات تدريب المسلحين في أفغانستان، وضغط المسئولون الأمريكيون على طالبان لتسليم زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن المتهم الأول في تلك التفجيرات، وهو ما رفضته الحركة ففرض عليها مجلس الأمن عقوبات في 1999، داعيا إلى تسليم أسامة بن لادن وإغلاق جميع معسكرات القاعدة في البلاد، لكنها جددت رفضها.
سقط حكم طالبان في نوفمبر عام 2001، أي بعد سيطرتها على البلاد بنحو خمسة أعوام، وتمكنت قوات التحالف الشمالي من دخول العاصمة كابول بدعم من قوات تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة التي قصفت معاقل الحركة في المدن الأفغانية ومعسكرات القاعدة ردا على هجمات 11 سبتمبر التي استهدفت أهداف مدنية وعسكرية في الولايات المتحدة.
في نفس الشهر سحبت السعودية والإمارات اعترافهما بحكومة طالبان، وبقيت باكستان الدولة الوحيدة التي تعترف بحكومة الحركة، وتم تنصيب حامد كرزاي رئيسا جديدا لأفغانستان واعترف العالم بالنظام الجديد، وبقى الاحتلال الأمريكي هناك نحو 20 عاما، إلا أن طالبان لم تنته ولم تتوقف ضرباتها حتى تمكنت في أغسطس الماضي من دخول العاصمة كابول بعد رحيل الرئيس الأفغاني أشرف غني وأركان نظامه.
ما حدث في 1997 تكرر مرة أخرى عام 2021، فرغم سقوط حكومة أشرف غني إلا أن سفارات أفغانستان في عواصم العالم لاتزال ترفع علم جمهورية أفغانستان الإسلامية، ويمثل سفراء غني بلادهم في الاجتماعات والمحافل الدولية، لأن حكومة طالبان التي استولت على السلطة غير معترف بها.
يضفي الاعتراف الدولي على حكومة طالبان الشرعية على القوانين والقرارات الصادرة عنها، كما يمنحها الحق في استخدام القوة في مواجهة خصومها في الداخل، علاوة على أن المنح والقروض التي كانت تحصل عليها الحكومة السابقة ستتوقف لحين حصول طالبان على الاعتراف الدولي، كما أن طالبان لا تستطيع التوقيع على اتفاقيات أو معاهدات مع الدول الأخرى دون هذا الاعتراف، «مستقبل الحركة كحكومة لدولة مرهون بالاعتراف الدولي».
في تصريحات صحفية أدلى بها قبل أيام، قال محمد سهيل شاهين، الذي عينته طالبان كممثل دائم لأفغانستان لدى الأمم المتحدة، إنه يتوقع أن يمثل بلاده في المنظمة الدولية قريبا، في مسعى من الحركة لنيل اعتراف دولي بها وبممثليها في المنظمات الدولية.
شاهين أشار إلى أن الممثل الدائم لحكومة كابول السابقة لم يعد يمثل أفغانستان ولا سكان البلاد، «ليس لديه دعم شعبي.. لدينا دعم من شعب أفغانستان ونسيطر على كامل أراضي أفغانستان.. تمثيل أفغانستان في الأمم المتحدة هو حقنا.. ونأمل أن يدرك الجميع قريبا هذه الحقيقة التي لا جدال فيها».
وفي وقت سابق، قالت الممثلة الرسمية لرئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة مونيكا جراي “إن البعثة الدائمة لأفغانستان لدى الأمم المتحدة أبلغت المنظمة أن هذه الدولة لن تتحدث في المناقشة العامة لأسبوع المستوى الرفيع لدورة الجمعية العامة”.
وكانت طالبان قد وجهت رسالة إلى الأمم المتحدة تطلب فيها إلقاء كلمة في اجتماع الجمعية العامة، إلا أن المنظمة ردت على الرسالة بالإشارة «ليس بهذه السرعة».
وسبق وأكدت وزارة الخارجية الأمريكية أن دراسة مسألة تمثيل طالبان لدى منظمة الأمم المتحدة يتطلب وقتا معينا ولن يتم ذلك خلال أسبوع الاجتماعات في إطار الدورة الـ76 للجمعية العامة.
تواجه حركة طالبان معضلة الاضطلاع بالمهام الاقتصادية والاجتماعية والأمنية المنوطة بالسلطة الحاكمة، فبعد دخولها العاصمة كابول تعهدت قياداتها بتحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين، والنهوض بالأوضاع الاقتصادية المزرية، لكن دون تأمين دعم دولي واستعادة حرية التصرف في الاحتياطيات النقدية القابعة بالخارج لن تتمكن الحركة من تنفيذ وعودها.
طالبان التي تحولت من حركة تمرد إلى نظام حكم، فقدت جزء كبير من عائداتها التي كانت تجنيها من أنشطة محرمة كزراعة الخشاش أو فرض ضرائب على من يزرعونه أو تلقي تبرعات من مؤسسات وشخصيات مؤمنة بأفكارها ومعجبة بتحديها للأمريكان، وبعد وصولها إلى السلطة ومع تعهداتها بالإقلاع عن جميع الممارسات غير المشروعة، تراجعت تلك التدفقات.
ترهن العديد من دول العالم اعترافها بطالبان بتوجه الولايات المتحدة التي حتى الآن ترغب في التعامل مع عدوها السابق دون تطبيع واعتراف، هذا التعامل الحذر سيكون بلا اعتراف رسمي، فالاعتراف له شروط حددتها واشنطن وأعلنت بها الحركة حتى قبل أن تصل إلى السلطة وذلك إبان مفاوضات الدوحة العام الماضي.
أمريكا طالبت طالبان بعدم السماح باستخدام الأراضي الأفغاني للهجوم على أراضيها أو أراضي حلفائها، وعدم تحويل أفغانستان إلى ملاذ آمن للتنظيمات الإرهابية، فضلا عن الالتزام بحقوق المرأة وإنهاء الصراعات داخل البلاد.
رغم تعهدها بتشكيل حكومة «جامعة»، أعلنت طالبان عن حكومة لا تضم نساء ومقتصرة على طيف واحد وتضم متشددين من قدامى المجاهدين والمعتقلين السابقين بسجن جوانتانامو والمدرجة أسماؤهم ضمن لائحة العقوبات الأمريكية، وهو ما أفقدها ثقة بعض العواصم التي أبدت مرونة في التعاطي معها.
وتسعى طالبان إلى تفادي العزلة الدولية التي فرضت عليها في فترة حكمها الأولى، وتحاول الحصول على اعتراف دولي بحكومتها، وللوصول إلى هذا الهدف يكرر قادتها في كل مناسبة رسائل الطمأنة للداخل والخارج بأنها لا تفعل شيئا يسبب قلق المجتمع الدولي في قضايا كالسماح للمرأة الأفغانية بالدراسة والعمل، واحترام حقوق الإنسان وحرية التعبير والسفر والتنقل للمواطنين، والأهم منع استخدام الأراضي الأفغانية ضد الدول الأخرى.
وتواجه الحركة أزمة داخلية، فبينما يسعى أعضاء المكتب السياسي إلى تصدير وجه جديد للحركة في الخارج وفتح قنوات اتصال مع بعض الدول حتى لو عبر وسطاء، يبدي أغلب القادة العسكريين والدينين الذي لم يخرجوا من أفغانستان وعاشوا في الكهوف والجبال تشددا وتمسكا بالأهداف التي تبنتها طالبان عند تأسيسها قبل نحو ثلاثة عقود.
ويعتقد مراقبون أن استبعاد أفغانستان الطالبانية من النظام الدولي وعدم الاعتراف بها وحرمانها من تلقي المساعدات والمنح الدولية التي تشكل 80% من ميزانية البلاد، قد يدفع الحركة نحو العنف وفتح قنوات اتصال مع جماعات وحركات إرهابية تبحث عن ملاذات آمنة، ويتوقع هؤلاء أن استيعاب الحركة الجديدة وشدها نحو الحداثة ودعمها اقتصاديا يصب في صالح الجناح الأكثر اعتدالا داخلها ويخفف من الأوضاع الحقوقية والمعيشية البائسة التي يمر بها الشعب الأفغاني.
الإشارات الصادرة من إدارة بايدن تؤكد وجود علاقة عمل قوية بين الطرفين، خاصة فيما يتعلق بعدائهما المشترك لتنظيم الدولة الإسلامية (ولاية خراسان).
وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن قال في مؤتمر صحفي حول أفغانستان قبل أيام: «أي تعامل مع حكومة تقودها طالبان في كابل سيكون مدفوعا بشيء واحد فقط وهو مصالحنا الوطنية الحيوية».
وهو ما كررته بمفردات أخري فيكتوريا نولاند مساعدة وزير الخارجية للشئون السياسية.. «واشنطن ستواصل إجراء محادثات مع طالبان بما يخدم مصالح الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها»، ودعت نولاند حركة طالبان للوفاء بالتزاماتها باحترام حقوق الإنسان والقانون الدولي، مشيرا إلى أن لدى طالبان كثيرا لتكسبه إذا تمكنت من إدارة أفغانستان بشكل مختلف.
وخلال مقابلة مع وكالة الأنباء الفرنسية، وجهه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش نداء للمجتمع الدولي، مشددا على ضرورة إجراء حوار مع حركة طالبان التي استولت على السلطة في أفغانستان.
وتساءل الأمين العام: «هل هناك ضمانات؟ للمجتمع الدولي بالحصول في المقابل على حماية لحقوق النساء والفتيات؟»، وأجاب: «كلا، لا يمكن توقع تطورات الوضع، وجراء ذلك يجب أن ننخرط في حوار مع طالبان».
ويرى جوتيريش أن الحوار مع الحركة لابد منه «إذا أردنا ألا تكون أفغانستان مركزا للإرهاب.. إذا أردنا ألا تفقد النساء والفتيات كلّ الحقوق التي اكتسبنها خلال الفترة السابقة.. إذا أردنا أن تتمكّن الجماعات العرقية المختلفة من أن تشعر بأنّها ممثّلة».
حديث الأمين العام بدا منه إنه رسالة إلى المجتمع الدولي للتعاطي مع الواقع الجديد في أفغانستان، ويشير خبراء إلى أن التحالف الغربي التي تقوده أمريكا يخشى من تغلغل عدد من دول الجوار( روسيا والصين وإيران وباكستان وتركيا) لملء الفراغ الاستراتيجي الناجم عن الانسحاب الأطلسي من أفغانستان، ما دفع أمين عام حلف الأطلسي ينس ستولتنبرج للقول بأن الاعتراف الدبلوماسي بطالبان سيكون موضع نقاش بين الشركاء في الحلف “… لكن سيعتمد ذلك على أفعال الحكومة الأفغانية الجديدة».
وتشير تلك التصريحات إلى جانب تصريحات ساسة أمريكيين وغربيين إلى أن المصالح هي التي ستحسم المسألة برمتها في النهاية، فلو تمكنت طالبان من الالتزام بتعهداتها بعدم رعاية التنظيمات الإرهابية، وعدم توفير ملاذ آمن لحركات العنف الأصولي؛ فأن الاعتراف سيكون مسألة وقت، أما ما يخص حقوق المرأة والديمقراطية والحريات الأساسية فلن تكون عائقا أمام إقامة علاقات مع حكومة الحركة فلهذه الدول سجل حافل في التعامل مع أنظمة مستبدة ومتسلطة.