مقدمة:
لعله من الحقائق الفلسفية الواضحة أنَّ “فرانسيس بيكون” الفيلسوف الإنجليزي، هو مؤسس المنهج التجريبي، فلقد جمع بين الفلسفة والعلم والتجريب في نسق فلسفي واحد. ومن هنا اشتهر “بيكون” بين الفلاسفة المحدثين، بأنَّه حامل لواء الفلسفة التجريبية، واستخدام المنهج التجريبي كسبيل للوصول إلى الحقيقة. ومن هنا ترك لنا “بيكون” ميراثا علميا فلسفيا كبيرا، وقد تأثَّر من جاء بعده بهذا الميراث الفكري المعرفي.
ولعلنا نشير هنا إلى أنَّ “بيكون” قد عاش في عصر حافل بالتغيرات في جميع المجالات، ومن أبرزها، المجالان العلمي والفلسفي. وقد ظهرت قامات علمية وفكرية في عصره من أمثال “جاليليو” و”نيوتن” وغيرهما ممن أسهموا في إحداث وتفجير ثورة علمية كبيرة؛ كان من أسسها الخروج على الأفكار العلمية والتحرر من قيود الأفكار التقليدية الجامدة. ومن هنا دعا “بيكون” إلى استخدام منهج علمي تجريبي للخروج على تلك الأنساق الفكرية والمعرفية الجامدة، فهو من أوائل من رفعوا لواء العلم والروح العلمية. وقد اعتمد “بيكون” التجريب طريقة جديدة وأداة فعالة للمعرفة؛ مفجرا بذلك ثورة على فلسفة اليونان وتراث أرسطو ورفاقه.. القائمة على المنهج النظري الذي اعتبره “بيكون” من أكبر العيوب لدى هؤلاء الفلاسفة، فهو لا يؤمن أنَّ العقل النظري وحده يمكن أن يبلغ بصاحبه إلى المعرفة. وبناء على ذلك دعا “بيكون” إلى استخدام المنهج التجريبي من أجل الوصول إلى الحقيقة. كما دعا إلى تحطيم أوثان العقل البشري المتمثلة في أوهام العقل، التي مثَّلت عقبات وتحديات أمام التقدم البشري.
سيرة ومسيرة: لكي نتعرف أفكار “بيكون” وفلسفته، ربما يتوجب علينا النظر في أمر نشأته، والتعرف على بيئته، فالفيلسوف هو نتاج بيئته وعوامل تنشئته.
ولد “فرانسيس بيكون” في لندن عام 1561، وكان أبوه هو السير “نيقولا بيكون” حامل أختام الملكة “إليزابيث” الأولى. وأمه كانت الليدي “آن كوك” شقيقة زوجة السير “وليام سيسل” وزير خزانة الملكة. ومن هنا قضى “بيكون” فترة صباه بين أحضان الترف في القصر الملكي.
تعلَّم “بيكون” ثقافته الأولى من أمه التي كانت واسعة الاطلاع والمعرفة، لاسيما في الآداب واللغات القديمة.. وهذه البيئة الخاصَّة كانت مناسبة؛ بل وملائمة لظهور مفكر متحرر يؤمن بالعلوم، ويهاجم كل أنواع السلطة في ميدان العلم. ومن اللحظة الأولى التي ولد فيها “بيكون” كان مقدرا له أن يشغل منصبا عاما في الدولة؛ لأنه نشأ وتربَّى في أحضان القصر الملكي. فلما بلغ الثانية عشرة من عمره أُرسل إلى كلية “ترينتي” بجامعة “كمبردج”. و في السادسة عشرة من عمره ترك الكلية وقبل منصبا في السفارة الإنجليزية في فرنسا. ولعلنا نلفت الانتباه إلى حقيقة مهمة؛ وهي أنَّ “فرنسيس بيكون” قد أولع بالتجربة والتجريب، لدرجة أنه دفع حياته ثمنا لهذا الولع. فيذكر أنه في أحد الأيام القارسة البرودة، والجليد يتساقط.. كان “بيكون” في طريقه لقضاء إجازة في الريف الإنجليزي، فقفزت فكرة إلى ذهنه، وهي كيف يمكن أن نحتفظ بالأشياء في درجة برودة معينة –فكرة الثلاجة اليوم– فنزل من العربة وابتاع دجاجة، ووضعها في كيس من الثلج. وبسبب البرودة الشديدة أصيب بالتهاب رئوي مات على أثره، عام1626، وقد ترك لنا “بيكون” إرثا معرفيا وفلسفيا كبيرا. لعل من أهم هذه المؤلفات كتب “المقالات” و”حكمة الأقربين” و”الإحياء العظيم” ,”أطلنتس الجديدة” وغيرها.
“الأورجانون الجديد” هذا هو عنوان لكتاب مهم ألَّفه “بيكون” ومعناه الأداة أو الوسيلة الجديدة التي يتم من خلالها الوصول إلى المعرفة والحقيقة، في مقابل “الأورجانون” القديم أي منطق أرسطو الصوري. فلقد نقد “بيكون” منطق أرسطو القديم لأنه منطق عقيم عدم النفع. لذا عمل على التخلص منه، ووضع المنطق الاستقرائي الجديد، الذي ينتقل من مقدمات واقعية تجريبية، ويصل إلى حقيقة يقينية. وفي هذا السياق يرى “بيكون” أنه من أجل تكوين القيمة، لابد من وجود منطق جديد يضع الأصول التجريبية للوصول إلى الحقيقة. ومن هنا وضع “بيكون” نُصبَ عينيه مهمة إقامة منهج علمي جديد يرتكز على الفهم المادي للطبيعة، وظواهرها. وكان على وعي تام بحاجة عصره إلى هذا المنهج. ولعله من الأهمية بمكان أن نوضح أن فلسفة “بيكون” تؤمن بالتجربة الحسية كسبيل للمعرفة، ثم بعد التجربة الحسية تأتي عملية استخراج النتائج والتي يجب أن تتم بحذر. وقد دفعه هذا إلى توجيه انتقادات شديدة إلى القدماء، وعلى رأسهم أرسطو لاكتفائهم بالتأمل النظري حول الطبيعة، وإهمال الملاحظة والتجربة. ومن هنا طالب “بيكون” بضرورة إصلاح المنطق الأرسطي. ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا أن استخدام “بيكون” لمنهج الملاحظة والتجربة هو خطوة فعالة، بل إيجابية في طريق تحطيم أوثان العقل المعرفية. وهذا الكتاب أي “الأورجانون” مكون من جزأين: الأول كان “بيكون” حريصا على أن يثبت أخطاء الفكر في الماضي أي في العصور القديمة الوسطى، وهذا يمثل الجانب السلبي من منهجه. أما الجانب الإيجابي فيعرضه “بيكون” في الجزء الثاني من الكتاب وهو الاستقراء.
أوهام العقل-معوقات للمعرفة: في البداية يشير “بيكون” إلى وجود أوهام في العقل، هي بمثابة أوثان يجب تحطيمها، وتمهيد الطريق أمام العقل للوصول إلى المعرفة الحقة. هذه الأوهام هي بمثابة تحديات وعوائق وعقبات تقف في طريق العقل في رحلته إلى الحقيقة. لذا يجب تقويض تلك الأوثان وتقويض الأطلال القديمة، لوضع بناء جديد مكانها. ومن هذه الأوهام أو الأوثان: أولا: أوهام القبيلة Idols of the Race)) ويرى “بيكون” أنها أوهام مشتركة بين أفراد الجنس البشري. نحن على سبيل المثال ميالون إلى تعميم بعض الحالات دون الالتفات إلى الحالات المعارضة لها، وكذلك تحويل المماثلة الى تشابه، كما أننا نفترض في الطبيعة من النظام و الإطراد أكثر مما هو متحقق فيها. هذه الأوهام متأصلة في الطبيعة البشرية وفي طبيعة العقل البشري. لذا يجب التخلص منها من أجل وصول العقل إلى الحقيقة.
ثانيا: أوهام الكهف وهي الأوهام التي تخص كل فرد على حدا، فكل شخص منا له كهف خاص به من المعتقدات والآراء والنظريات ووجهات النظر. وهذا الكهف لا يرى الشخص إلا من خلاله الأشياء التي تتفق مع ميوله ورغباته. ولنا أن نشير هنا إلى أنَّ أوهام الكهف عند “بيكون” تشبه أسطورة الكهف عند أفلاطون.
ثالثا أوهام السوق : ويقصد بالسوق المكان الذي يجتمع فيه الناس للبيع والشراء وتبادل الحديث. ولما كانت اللغة وسوء استخدامها من الأمور الواردة في هذا المكان. كان لزاما كما يرى “بيكون” أن نحسن استخدام اللغة ونقوم باستعمالها بدقة ووضوح. من هنا نشير إلى أن أوهام اللغة هي الناشئة عن سوء استخدام اللغة وعجزها عن أداء المعاني بوضوح. لذا يجب التخلص من تلك الأوهام.
رابعا اوهام المسرح: هي أوهام خاصة بالعلماء والمفكرين والفلاسفة، فكل عالم وفيلسوف ومفكر يعتقد أنه يعطينا نظريات صحيحة وكلية للحقيقة. ومن هنا يرى “بيكون” أنَّ جميع النظريات السابقة التي خضع لها العقل هي بمثابة تمثيليات قام بإخراجها وتأليفها الفلاسفة، لذا يجب إخضاعها للفحص والتدقيق والنقد.
خلاصة القول حاول “بيكون” بكل ما أوتي من قوة فكرية أن يحطم أوهام العقل التي هي بمثابة أوثان تعوق العقل البشري عن التقدم في سبيل الوصول إلى الحقيقة. لذا طلب منا تحطيم تلك الأوثان التي تعوق العقل وتمثل تحديا صارخا له.
