مقدمة:
لعله لا يوجد فيلسوف في تاريخ الفكر الفلسفي قد عاني الويلات نتيجة أفكاره التي كانت سابقة على عصره مثل سقراط، ذلك الفيلسوف الذي دفع حياته ثمنا لأفكاره الجريئة، فهو رجل بحق نستطيع أن نطلق عليه يسبح ضد التيار. يعيش أفكاره ويطبقها لا يوجد انفصام بين ما يعتنقه من أفكار وما يطبقه من تلك الأفكار. هو نموذج للفيلسوف الذي ضحَّى من أجل مبادئه وأفكاره التي يؤمن به. مرت حياته بدروب من الألم النفسي، والتوتر الذي جعله يعيش مثل الذي يسير على الأشواك، والجمر الملتهب. سقراط عانى طوال حياته سواء داخل أسرته مع زوجته التي كانت تجهل قيمة وقامة هذا الرجل، الذي يسير حافي القدمين في شوارع أثينا يعلم الناس الفضيلة، و يسخر من جهلهم ويتهكم من أفكارهم، ويستخدم منهج التهكم والتوليد من أجل إظهار الحقيقة. ولا نبالغ في القول أن هذا الرجل الضخم الرأس الأفطس الأنف ذا الثياب البالية الرثة التي ينفر منها الجميع، قد استطاع أن يترك بصمته في التاريخ الفلسفي، وعلى كل ما جاء بعده من فلاسفة. وليس أدلَّ على ذلك ما يسمى الفلسفة السقراطية والتي عاشت من بعده وخلَّدها التاريخ، وتمثلت في المدارس السقراطية الصغرى، التي عاشت وطبَّقت أفكار سقراط الفلسفية في جوانبها المعرفية والأخلاقية و الدينية. ومن هنا كتب “بنيامين فرانكلين” في سيرته الذاتية أنَّ على البشرية أن تقتدي بالمسيح وسقراط. لقد أصبحت حياة سقراط نموذجا يحتذي به فهي نور ونار، نور يهدي إلى الحقيقة، ونار ملتهبة ومشتعلة من أجل الكفاح والذود عن المبادئ. عانى الصعاب في حياته، ومات في سبيل معتقداته، فكانت حياته سلسلة طويلة من الآلام والصعاب.
اعرف نفسك بنفسك “مخاض ولادة الأنا”:
لعل الدرب الأول من الألم الذي عانى منه سقراط، هو فكرته وفلسفته عن معرفة النفس أو الذات، تلك القضية التي حوَّل بها سقراط مسار البحث الفلسفي من دراسة أو البحث في الكونيات إلى البحث في الإنسان. أنَّه بحق أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، أي من البحث في الكون والعنصر الذي يقف وراء التغيرات في هذا الكون مثلما كان يفعل فلاسفة “أيونيا” الطبيعيون. أنزل البحث الفلسفي إلى النفس البشرية أصعب معرفة في الحياة أن تعرف نفسك. ونستطيع هنا أن نقول أنَّه مع البحث السقراطي في النفس البشرية تمت لحظة ميلاد الأنا البشرية. لأول مرة في تاريخ البشرية يتحول السؤال من البحث في الكون إلى البحث في الإنسان. لذا لا نتعجب عندما أطلقت كاهنة معبد “دلفي” على سقراط أنَّه أحكم رجل في أثينا. لقد انتقل السؤال عن طريق سقراط من الخارج أي من الكون إلى مملكة الإنسان الداخلية. وهل هناك أعظم معرفة من معرفة الإنسان لذاته. ولعل هذا هو درب الألم الأول فقد وقف معظم أهل أثينا ضد سقراط وأفكاره، لأنَّهم اعتادوا على العادات والمألوف من المعتقدات، وعلى الثوابت من الأفكار لقد ألقى سقراط حجرا في المياه الراكدة حرَّك به الكثير من الأفكار الجامدة والمعتقدات الراسخة. وفي سبيل تلك الفكرة في معرفة النفس أصبحت جريمة في حق سقراط، عانى منها الويلات، وهنا عاقبته ديمقراطية أثينا وحكمت عليه بالإعدام كما سوف نرى بعد ذلك. فالديمقراطية تؤمن بالتعدد والجمع لا بالعدد والتفرد. أمَّا سقراط فقد جاء ليقول لها لأبد أن نبدأ من داخلنا لا بد أن نبدأ من داخل الفرد، لابد أن يعرف الإنسان ذاته بذاته لا عن طريق التلقين.
الفضيلة علم والرذيلة جهل “درب النور والحقيقة”:
يرى سقراط أنَّ معرفة الفضيلة يجعلنا نفعلها ونتمسك بها، والجهل بها يجعلنا نقع في الرذيلة. فالفضيلة هي السمو الأخلاقي، ويُعَدُّ الفرد فاضلا إذا كانت شخصيته مكونة من السمات الأخلاقية المقبولة. وفي هذا السياق نشير إلى أنَّ سقراط قد أضفى على الفضيلة هالة من القداسة، كونها أعظم خير في الحياة، ولأنَّها وحدها القادرة على ضمان سعادة الفرد، حتى أنَّ الموت مسألة تافهة بالنسبة للفرد الفاضل الذي يدرك أنَّ أهم شيء في الحياة هو روحه، والتصرفات التي تنبثق عنها. ومن هنا لكي يكون المرء فاضلا أكد سقراط أنَّه يجب عليه التوصل إلى معرفة حقيقة وجوهر الفضيلة معرفة طبيعية. لذا الفضيلة هي الشرط الضروري والكافي ليصبح المرء فاضلا. ويمكن أن نقول المعرفة=الفضيلة=السعادة. عندما نهتدي إلى معرفة الفضيلة سنكون فضلاء. ومن هنا؛ فالفرد الذي يجهل حقيقة الفضيلة ويرتكب فعلا شريرا؛ فأنَّه هنا يقوم بفعل الرذيلة. وهنا نوضِّح أنَّ هذا هو الدرب الثاني الذي عانى منه سقراط.. الألم والأذى في نفس الوقت. لأنَّه اقترب من ثوابت في المجتمع الأثيني، وحاول تغييرها بأفكار جديدة على هذا المجتمع. ليس هذا فحسب بل وقف ضد معتقدات أخلاقية كانت ترى في اللذة الفضيلة القصوى لكل فعل إنساني. فجاء سقراط وألقى بظلال وارفة على معانٍ جديدة للأخلاق تجعل من الفضيلة الغاية القصوى للفعل الإنساني، وبالتالي الوصول إلى السعادة.
تجرع السم “المبادئ اسمى ما في الحياة”:
لعل بعد كل هذه التغيرات التي أحدثها سقراط بأفكاره الجريئة والشجاعة، كان لابد من وقفة من جانب صفوة المجتمع الأثيني الذين رأوا أن سقراط هز وزلزل مكانتهم وحكمهم. فكانوا له بالمرصاد من حيل ومكائد. فاتهموه بإفساد عقول الشباب، وازدراء الآلهة. وكان لابد من محاكمته أمام القضاء الأثيني. وفعلا تم الحكم على سقراط بالإعدام، وتجرع سم نبات الشوكران القاتل. و لقد تأخَّر تنفيذ الحكم لمدة ثلاثين يوما؛ بسبب احتفالات دينية في أثينا. عرض على سقراط من تلاميذه -خاصة أفلاطون- أن يتم تهريبه خارج البلاد. لكن سقراط رفض بشجاعة منقطعة النظير. لأنَّه يؤمن بأفكاره يؤمن بمبادئه، وأنه على حق و صواب. وأنَّه سيترك نموذجا يحتذي به. ومن هنا يروي أفلاطون في دفاع سقراط، كيف دافع سقراط عن فضيلته أمام هيئة المحلفين، وكيف قابل قرار الحكم بالإعدام بهدوء. وقال جملته المشهورة “إن الحياة دون تجربة لا تستحق أن تُعاش”. و لعل المشهد الأخير في حياة سقراط يظل عالقا بالأذهان وخالدا في مسيرة التاريخ. يقول أفلاطون وهو الذي قدَّم وكتب عن أفكار سقراط في محاوراته المشهورة. لأن سقراط لم يترك لنا أثرا من كتابات أو مؤلفات. يقول أفلاطون: “يوم إعدام سقراط بدا سعيدا بأفعاله وأقواله، لأنه مات بنبل وشرف من أجل مبادئه. فقد تجرَّع سقراط كأسا من نبات الشوكران السام المختمر، الذي قدَّمه له جلاده، وأخذ يتمشَّى حتى خدرت قدماه؛ فاستلقي محاطا بتلاميذه حتى وصل السم إلى قلبه. مات أعقل وأحكم رجل في أثينا من أجل المبادئ. ومن المبادئ ما قتل. عانى في موته لكي تظل مبادئه وأفكاره خالدة.
صفوة القول: لقد مثلت حياة سقراط سلسلة طويلة من دروب الألم والمعاناة من أجل أفكاره التي غيَّرت وجه الحياة في أثينا. فكان بحق نموذجا للفيلسوف الذي عاش أفكاره وطبَّقها.