“ابن طفيل” هو “أبو بكر محمد بن عبد الملك” (506 هـ ـ 581 هـ) الفيلسوف الأندلسي المعروف بصداقته لفيلسوف قرطبة “ابن رشد”. لم تصلنا من آثار “ابن طفيل” الفلسفية سوى رسالته “حي بن يقظان” وهي إحدى قصص ثلاث تحمل الاسم نفسه: الأولى لابن سينا، والثانية لابن طفيل، والثالثة للسهرودي.. و”حي بن يقظان” مجال حديثنا هنا، هي رسالة يعرض فيها “ابن طفيل” في قالب قصصي مضمون “الفلسفة المشرقية” التي قال عنها “ابن سينا” إنها عنده “الحق الذي لا مجمجة فيه”.
عمل “ابن طفيل” طبيبًا وموظفًا كبيرًا في “دولة الموحدين” منذ مؤسسها الفعلي “عبد المؤمن بن علي” –اليد اليُمنى للمهدي بن تومرت– واستمر في عمله في عهد “أبو يعقوب يوسف بن المأمون” الذي تولى الخلافة بعد وفاة أبيه (558 هـ) ذلك الخليفة الموحدي الذي كان يجمع بين المعرفة بعلوم الدين والاهتمام بالفلسفة وعلومها.
وكان “مأمون” دولة الموحدين يحيط نفسه بحاشية من العلماء والفقهاء والفلاسفة، وكان يهتم بجمع الكتب بمختلف أنواعها، حتى اجتمع له من كتب الفلسفة قريبًا مما اجتمع للحاكم الثاني المستنصر “مأمون” الدولة الأموية في الأندلس. ولأنه كان يجمع كتب الفلسفة لبحثها ودراستها، فقد طلب من “ابن طفيل” أن يعمل على “تلخيص كتب أرسطو وتقريب أغراضها بعد أن يفهمها جيدًا ليقرب مأخذها من الناس” ولكن “ابن طفيل” لسبب أو لآخر؛ انتدب صديقه فيلسوف قرطبة “ابن رشد” لهذه المهمة.
العقل.. فلسفة الفطرة
وبالرغم من عدم إنجاز “ابن طفيل” للمهمة؛ إلا أنه كان قد ترك لنا أهم أطروحات الفكر العربي الإسلامي الفلسفي، ونعني بها قصة “حي بن يقظان” التي قدّم فيها خلاصة فلسفته في سرد روائي شيق، إذ يخلص إلى “فلسفة الفطرة” وكيفية الاستدلال العقلي على وجود الخالق من خلال الطفل “حي” الذي قامت على تربيته ظبية في جزيرة نائية بعيدًا عن البشر.
في هذه الجزيرة –وبعد موت الظبية– يتعلم “حي” بالتجربة والمُعايشة حقيقة الحياة والروح، ويتوصّل إلى حقائق الكون والألوهية. وحينما يلتقي “أبسال” الرجل الميال للزهد والتصوف في جزيرة أخرى عامرة بالناس، تتطابق معرفة “حي” العقلية مع معرفة “أبسال” المتحصلة عبر الشريعة السماوية. وعندما يختلط “حي” بالناس ويرى مدى تعلقهم بالدنيا، يصطدم بالحياة وبتفكير الناس البعيد عن الدين وعن الفهم الباطني للخلق، ويعرف أن أكثرهم بمنزلة الحيوان غير الناطق؛ فيكتشف أن الهدف من مجيء الرُسل هو تنظيم حياة الناس.
وفي النهاية يختار “حي” العودة إلى جزيرته الأولى والعزلة فيها، ليتفرغ للعبادة، وليصير بذلك رمزًا للفطرة السليمة.
وكما يبدو في هذه القصة الفلسفية التي سبق ظهورها عصر النهضة في أوروبا، وعصور “كوبرنيكوس” و”جاليليو” و”نيوتن” و”أينشتين” وغيرهم من أقطاب الفلك الحديث، يتضح مسعى “ابن طفيل” في إظهار الدلائل الإيمانية والتأملية معًا، في منظومة الخلق والكون من خلال فكر إنسان كان يعيش منفردًا في جزيرة منعزلة، فيهتدي بفطرته إلى مكنونات الخلق وعظمة الخالق عبر عقله –ببصره وسمعه– كما اهتدى ببصيرته إلى الإيمان.
أسرار.. الحكمة المشرقية
بيد أن أهم ما يمكن ملاحظته بهذا الخصوص، أن هناك علاقة مباشرة بين قصة “حي بن يقظان” التي كتبها “ابن طفيل” والفلسفة المشرقية السينوية (فلسفة ابن سينا). وهذا ما يؤكده “ابن طفيل” نفسه.. فقد استهل مقدمة قصته قائلا: “سألت أيها الأخ.. أن أبث إليك ما أمكنني بثه من أسرار الحكمة المشرقية التي ذكرها الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا”.
وإذا حاولنا تلمُّس الملمح العام لهذه العلاقة المباشرة المُشار إليها، فسوف نجد أن “ابن طفيل” يعرض في قصته لا “الحكمة المشرقية” كما ذكرها “ابن سينا” بل أسرارها. لا يتعلق الأمر إذن بآراء ابن طفيل الخاصة، كما ساد ويسود الاعتقاد بذلك، بل بفهمه لفلسفة أخرى هي بالضبط “الحكمة المشرقية” التي ذكرها الشيخ الرئيس وأحال إليها.
إن “ابن طفيل” يتحدث فعلا في مقدمة القصة عن حصوله على “ذوق يسير” وأن ذلك هو الذي جعله يشعر بنفسه أهلا لعرض أسرار “الحكمة المشرقية” تلك؛ لكنه في الوقت نفسه يؤكد أن طريقه لم يكن هو طريق “ابن سينا” ولا طريق “الغزالي” أو غيره من “منتحلي الفلسفة” في عصره –حسب تعبيره– بل لقد حصل به ما حصل –كما يقول– “بطريق البحث والنظر أولًا، ثم المشاهدة ثانيًا”.
ونحن عندما نؤكد هذا، لا نرمي من ذلك إلى نفي التأثير، تأثير “ابن سينا” أو غيره على “ابن طفيل” لكننا نريد التأكيد على أنه بالرغم مما قد يكون هناك من تأثير للشيخ الرئيس على “ابن طفيل” وبالرغم من أن هذا الأخير قد عرض فلسفة “ابن سينا” عرضًا أمينًا محايدًا، فإن هذا الفيلسوف الأندلسي لم يكن ينطلق في تفكيره، ولا في إشكالياته، من منطلق “ابن سينا”.
إشكالية.. الدين والفلسفة
لقد كان الشيخ الرئيس يهدف إلى دمج الفلسفة في الدين، والدين في الفلسفة، ومن ثم تعويضهم بفلسفة دينية واحدة، هي بالضبط تلك التي عرضها “ابن طفيل” ممثلة في تفكير وسلوك وطموح “حي بن يقظان” بطل القصة.
وقد استقى “ابن طفيل” هذه الفلسفة الدينية من مختلف كتب “ابن سينا” المتداولة حينئذ، مثل كتاب “الشفاء” وكتاب “الإشارات والتنبيهات” وبعض القصص الرمزية مثل قصة “حي بن يقظان” وقصة “أبسال وسلامان” بل وعمد إلى إبراز “العناصر المشرقية” فيها؛ غير أن “ابن طفيل” لم يقتصر على شرح هذا الطريق وحده، الطريق الفلسفي الديني الذي سلكه “حي بن يقظان” بل وضع في موازاته طريقًا آخر، هو طريق الدين، طريق الوحي.
إلا أن الفيلسوف الأندلسي يترك الطريقين متوازيين في النهاية، كما وضعهما في البداية. ففي القصة فشل “حي بن يقظان” في إقناع “سلامان” وجمهوره بأن معتقداتهم الدينية هي مجرد مثالات ورموز للحقيقة المباشرة، التي اكتشفها بالعقل. بمعنى أنه فشل في إقناع جمهور المؤمنين، بأن طريقه وطريقهم واحدة، وأن العبادات والطقوس الدينية التي يمارسونها ليست مقصودة لذاتها، بل لأجل أن توصلهم إلى ما وصل إليه هو نفسه بمجرد النظر والتأمل؛ فشل “حي” في ذلك وعاد إلى جزيرته، الشيء الذي يعني “فشل المدرسة الفلسفية في المشرق، التي بلغت أوجها مع “ابن سينا” في محاولاتها الرامية إلى دمج الدين في الفلسفة”.
أما البديل الذي يطرحه “ابن طفيل” بل المدرسة الفلسفية في المغرب والأندلس بكامل أعضائها، فهو الفصل بين الدين والفلسفة.. ولعل بديل “ابن طفيل” يتضح إذا لاحظنا أن “حي بن يقظان” من خلال تجربته كان قد استطاع أن يتعرف على الطبيعة أولًا، ثم على ما وراء الطبيعة؛ ومن ثم –وعبر اكتشاف أسرار الطبيعة– يتوصّل إلى الاقتناع بوجود مبدأ لهذا الكون هو “واجب الوجود” فيرى أثر صنعته (حسنه وجماله) في كل شيء.
وأيًا يكن من أمر الاتفاق أو الاختلاف مع دمج الدين والفلسفة أو فصلهما؛ إلا أن ما يجب الإشارة إليه أن “ابن طفيل” من حيث كونه أهم من قام بعرض “الحكمة المشرقية” التي ذكرها “ابن سينا” وأحال إليها – لم يتوقف عند هذه الحدود، ولكنه تجاوزها ليضع طريقي المعرفة أمام الإنسان، الطريق الفلسفي وطريق الدين.. طريق الوحي.