بقلم: حسين عبد الغني، نقلًا عن موقع صحيفة عمان، لقراءة المصدر الأصلي: أضغط هُنا
نجح الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا في تحقيق هدفه الرئيسي، وهو إصابة القدرات العسكرية الأوكرانية بإعاقة دائمة وإنهاء دورها [المخطط له أطلسيا] بأن تصبح قاعدة متقدمة لتهديد الأمن القومي الروسي أو بعبارة أخرى أعاد الهجوم أوكرانيا من جديد منطقة أمنية عازلة لروسيا، تفصل بينها وبين التمدد والتوسع العسكري الأطلسي الذي كان قد لامس البطن الناعمة لموسكو نفسها. ولا يعود ذلك النجاح بالأساس لتفوق روسي في موارد السياسة الخارجية أو لضعف في خبرات وكفاءة استخدام واشنطن لهذه الموارد، ولكن لأن الاختيار الاستراتيجي الأمريكي في هذه الأزمة بالتصعيد إلى حافة الهاوية؛ كان ضد حركة التاريخ التي تجعل الأوزان الدولية ونمط القيادة العالمي؛ إما لقوة إمبراطورية منفردة مهيمنة أو لقوى متعددة متنافسة ووازنة، إنما هو انعكاس صريح لموازين القوة. ولقد تغيرت هذه الموازين كثيرا في الثلاثين سنة الأخيرة التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفييتي.
هذا لا يمنع من أن الروس أيضا استطاعوا بكفاءة توظيف أدوات وموارد السياسة الخارجية المتاحة لديهم -رغم أن الفجوة كانت ومازالت لصالح الأمريكيين.
إذ تمكنت موسكو من تجاوز الفترة الأولى للأزمة التي كانت أمريكا قد انتزعت فيها زمام المبادأة ووُضعت أثناءها -في موضع الدفاع وذلك عبر الخطوات والسياسات التالية:
– بضربة واحدة ولكن حاسمة أعادت موسكو ضبط الميزان الاستراتيجي الذي مال في بداية الأزمة لصالح أمريكا بحشد كل حلفائها الأطلسيين وحلفائها في كل من المحيط الهادئ والهندي (الهند واليابان واستراليا) وإحياء مفهوم الانجلو – ساكسون في السياسة الدولية (أمريكا وكندا واستراليا وبريطانيا ونيوزيلندا).
هذه الضربة كانت زيارة بوتين للصين التي حولت التحالف الصيني – الروسي غير المعلن في العشرية الأخيرة إلى تحالف معلن مهمته الصريحة هي إنهاء تشبث أمريكا بوضعها كزعيم أوحد للعالم، ومن ثم مشاركتها -رضا أم كرها- في هذه الزعامة الدولية.
هذا الدعم من ثاني قوة اقتصادية في العالم “الصين” دمر تماما احتمال أن تقضي العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي وجعل قدرة روسيا على تحمل قسوتها دون أن تركع على قدميها قدرة كبيرة للغاية.
– خطوة أخرى استراتيجية لا تقل أهمية (من المنظور العسكري للأزمة) تمثلت في تعميق التحالف المطلق مع بيلاروسيا المجاورة لأوكرانيا منذ نوفمبر الماضي وتنظيم مناورات عسكرية مشتركة ضخمة توجه إعلان بيلاروسيا استعدادها لأن تحارب نوويا مع روسيا إذا اقتضي الأمر. من الناحية العملية أضعف كثيرا هذا التطور الوضع العسكري لأوكرانيا وخلق محورا جديدا للهجوم على أوكرانيا (الهجوم العسكري جرى عبر ثلاثة محاور من الأراضي البيلاروسية ومن إقليم “دونباس الشرقي المنشق على أوكرانيا ومن الأراضي الروسية نفسها) ولهذا فعندما قال خبير عسكري روسي منذ شهرين تقريبا إن بيلاروسيا ستكون عاملا استراتيجيا حاسما في أزمة أوكرانيا فإنه كان يعرف تماما ما يقول.
تسخين وتبريد الأزمة والخداع التكتيكي الناجح
– مارس الروس تكتيكات “تبريد الأزمة وتسخينها” بطريقة بارعة أعادت إليهم قدرا لابأس به من استعادة زمام المبادرة فبينما أظهروا بوضوح عدم نيتهم التنازل عن مطلبي عدم انضمام أوكرانيا للناتو ووقف نشر الأسلحة الهجومية الغربية في شرق أوروبا قاموا بالتوازي بفتح الباب على مصراعيه للتفاوض واستقبلوا زعيمي أهم دولتين أوروبيتين (ماكرون وشولتز) والعديد من القيادات الغربية وتحاور لافروف مع نظيره وزير الخارجية الأمريكي بلينكن. وتحدثوا عن نيتهم وقف الحشد وإعادة القوات بعد انتهاء المناورات مع بيلاروسيا والتزامهم بالحلول الديبلوماسية ووقف التصعيد بل وتعمدوا جعل الأيام التي- حددها الأمريكيون بقدر كبير من التسرع والثقة الزائدة في تقديراتهم – لشن الغزو الروسي على أوكرانيا تمر دون حدوث شيء، وبدأ المسؤولون الروس في اتباع نهج السخرية من المعلومات الغربية وحولوها في ذهن كثيرٍ إلى بروباجندا وحرب إعلامية غربية وليست تقديرات صائبة، وزاد هذا من الشرخ غير المعلن بين كلٍ من فرنسا وألمانيا من ناحية وواشنطن من ناحية أخرى في درجة الصرامة المطلوبة مع روسيا. هنا بدا الغرب مترددا ومرتبكا ومتشككا في تقديراته، وهنا فقط وعندما تحقق للروس هذا الخداع التكتيكي وعدم الإجماع الغربي بشأن نواياهم الحقيقية؛ اقتنصوا اللحظة المناسبة فأعلنوا الاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين في شرق أوكرانيا وشنوا عمليتهم العسكرية على أهداف منتقاة في أوكرانيا ودمروا فيها معظم البنية التحتية العسكرية للقوات والقواعد الجوية ومراكز القيادة والاتصالات والرادارات مع زحف منسق نحو العاصمة كييف ودعوة الجيش الأوكراني نفسه للانقلاب على الرئيس زيلينسكي لكي يكمل المهمة نيابة عن الجيش الروسي وحلفائه حتى لا ينزلق الهجوم الروسي إلى وضع التوريط والاستنزاف في المستنقع الأوكراني وهو السيناريو الأمريكي البديل الذي هدفت واشنطن أن تصل إليه من حملة استفزاز روسيا ودفعها لحافة الهاوية منذ تغير السلطة في كييف ٢٠١٤ عموما ومنذ ١٨ نوفمبر ٢٠٢١ خصوصا.
كما سبق الحديث من قبل فإنه إذا كانت إيران وكوريا الشمالية والسودان ومن قبلها كوبا وفنزويلا لم تقض عليها العقوبات وهي بين دول متوسطة وصغيرة!! فهل تقضي على روسيا صاحبة أكبر مساحة يابسة في العالم تحتوي على واحدة من أهم الموارد الطبيعية ووراءها اقتصاد شبه متقدم وقيادة موحدة مسيطرة على مقاليد الأمور بدون منازعة من برلمان وخلافه وحالة شعور بالكرامة الوطنية الروسية القديمة يدعم هذه القيادة في حالة شعبوية؟؟
وإذا كانت روسيا ستتجنب البقاء طويلا أو استنزافها عسكريا أو اقتصاديا في أوكرانيا وستعود أدراجها إلى قواعدها؛ إما بتنصيب قيادة موالية لها في كييف كما كان الأمر قبل احتجاجات ٢٠١٤ أو بعودة زيلينسكي لطلب التفاوض في ظل الهزيمة العسكرية وقبوله ساعتها ما رفضه سلما.
ما رفضه زيلينسكي سلما وقد يقبله هو أو غيره من القيادات الأوكرانية هو:
– أوكرانيا غير معادية لموسكو.
– غير مجهزة بأسلحة تهدد أمن روسيا.
– لا تنضم الآن ولا في المستقبل لحلف الناتو.
– إن نموذجا جديدا للحياد الفنلندي تنتهجه أوكرانيا، بح صوت أكثر من مفكر سياسي أمريكي وأوروبي في الدعوة إليه في السنوات الخمس الأخيرة -دون استجابة من صقور مؤسسة الأمن القومي الأمريكي واليمين الأوكراني الحاكم- قد يكون الحل المناسب لتهدئة مخاوف روسيا الأمنية من ناحية وللحفاظ على وحدة وسيادة أوكرانيا من ناحية أخرى. وهنا سيكون ميسورا على روسيا التراجع عن الاعتراف باستقلال الجمهوريتين الانفصاليتين في شرق أوكرانيا إذا حصلت على تعهد قاطع من كييف بمنح الإقليم حكما ذاتيا كاملا في إطار نظام أوكراني فيدرالي غير مركزي، فكل المؤشرات تقول إن هذا الاعتراف ليس إلا ورقة ضغط تفاوضية موجعة وليس تخليا حقيقيا عن التزام موسكو في اتفاقيتي مينسك الأولى والثانية على احترام استقلال وسيادة أوكرانيا. أما السبب الحقيقي للأزمة والذي أخذت فيه أوكرانيا رهينة وتحولت فيه إلى ضحية وكبش فداء فقد حسم أو كاد لصالح حق الصين أولا وروسيا ثانيا في مشاركة العملاق الأمريكي في قيادة العالم في نظام متعدد القطبية يفتح أفقا واسعا للدول المتوسطة والصغيرة للاستفادة من مساحات التنافس بين القوى العالمية في تطوير اقتصاداتها وزيادة حضورها وتأثيرها في إقليمها.