معركة القرم لم تندلع عندما تقدم الجيش الروسي لاستعادتها من أوكرانيا كما يمكن أن يتصور البعض، فمن يعود لتصفح الوثائق الروسية؛ سوف يندهش كثيرا عندما يكتشف أن القرم كانت مسرحا للعبة كبرى من أجل النفوذ والسيطرة جرت منذ زمن بعيد.
تلت فترة العصر الذهبي لدولة كييف التي تحدثنا عنها في الحلقة السابقة – فترة من الاضمحلال وتهاوي الدولة الروسية الوليدة، والتي انقسمت إلى مجموعة من الإمارات الاقطاعية المنفصلة بعد وفاة “فلاديمير مونوماخ”. وفي عام 1240، سقطت كييف في يد المغول الذين اعملوا فيها السلب والنهب والقتل، وأصبحت روسيا منذ ذلك الحين واحدة من مستعمرات الإمبراطورية المغولية التترية، ورغم أن بعض علماء الجغرافيا السياسية يرون أن الغزو المغولي كان نقمة على روسيا، وأخذها إلى مرحلة تخلف؛ فإن عددا من العلماء الروس ينظرون إلى الأمر بصورة مختلفة تماما، ويرون أن المغول هم الأساس السياسي الذى قامت عليه روسيا الحديثة، ومن بين هؤلاء المفكر الروسي “سافيتكسي” الذى أطلق مقولة “لولا المغول لما قامت روسيا” معتبرا أنه بفضل القبيلة الروسية التترية اكتسبت روسيا استقلالها الجيوسياسي وحافظت على استقلالها الروحي من عدوانية العالم الروماني الجرماني.
وفي كتابه “جغرافيا السياسة في روسيا” يشير المفكر الروسي الكبير “ألكسندر دوجين” إلى أن المغول أتوا بالنظم السياسية والإدارية التي تبنتها روسيا فيما بعد، وثمة مدارس في التاريخ الروسي تشير إلى أن الوقوع تحت سيطرة المغول – جنَّب روسيا الاستعمار اللاتيني الآتي من الغرب، وهو ما حافظ على الثقافة الروسية والهوية الأرثوذوكسية.
اللافت أن التناحر بين الأمراء الروس تواصل وهم خاضعون لحكم المغول، وظلت الأوضاع هكذا إلى أن دبَّ الوهن في صفوف القبيلة الذهبية المغولية، فتوقف الأمراء الروس عن دفع الجزية، وكان من أبرز الإمارات التي شقت عصا الطاعة إمارة موسكو والتى اشتبكت مع المغول وانتصرت عليهم في معركة “كوليكوفو” في عام 1380م.
إمارة موسكو
وشهد عام 1480، نهاية السيطرة المغولية على روسيا، وفى منتصف القرن السادس عشر بدأت إمارة موسكو حقبة تعرف باسم “موسكو القيصرية” حيث بدأت في ضم الأجزاء الشمالية التي خضعت لسيطرة ليتوانيا، وفي عهد “إيفان الثالث” بدأت القوى الغربية في إدراك دور موسكو الجيو سياسي، وأصبحت روسيا ترى في نفسها حصنا منيعا للمسيحية، بعد أن اعتبرت نفسها بديلا لبيزنطة، وقامت بعد ذلك بغزو قازان وإسقاط أهم معاقل القبيلة الذهبية المغولية.. وبدأت روسيا بعد ذلك في إحكام قبضتها على الفضاء الاسيوي الذى كان في السابق مصدر تهديد لها.
ويقدم “دوجين” توصيفا للمشهد في تلك الفترة فيقول “كانت إمارة موسكو بالنسبة للأوربيين مجرد كيان هامشي صغير تائه في ظلال جار غربي أكبر حجما ووزنا وتمثيلا وتاثيرا وهو ليتوانيا. أما من الآن فصاعدا فقد صارت واقعا مستقلا يحسب له الكل حسابه، وبسقوط القسطنطينية ظهر مفهوم جديد يقول أن موسكو هى روما الثالثة، ويشير هذا المفهوم الي نظرية الانتقال الشرعي للراية الإمبراطورية من بلد لآخر، ومن ثم أعيد النظر في وضع الحاكم الروسي، فلم يعد أميرا معظما وحاكما علمانيا –كما كان من قبل– ولكنه أصبح الإمبراطور المقدس. وروسيا بهذا المفهوم هي “روسيا المقدسة” مملكة عالمية والشعب الروسي يصبح هو حامل الرب في داخله.
لكن تطورا كبيرا حدث بعد وفاة “إيفان الرهيب” في عام 1584، حيث حل الفراغ فجأة بغياب الحاكم المستبد الذى أمسك البلاد بقبضة من حديد، فعاشت البلاد ثلاثة عقود مرعبة أسماها المؤرخون مرحلة الفتنة، وفي عام 1610، تمكنت بولندا من إدخال قواتها إلى موسكو، وتنصيب “فلاديسلاف” الرابع الابن الأكبر لملك بولندا، حاكما على روسيا التي فقدت استقلالها لثلاث سنوات كاملة؛ خضعت خلالها لسيطرة الغرب الكاثوليكي، وكان المؤلم بحسب “دوجين” أن الطبقة الأرستقراطية وعوائل النبلاء العريقة في البلاد، توافدت بمحض إرادتها لتقديم يمين الولاء للاحتلال البولندي، وبعد سنوات من المقاومة الشعبية جرى التفاوض مع البولنديين الذين قرروا أخيرا الجلاء عن روسيا في عام 1613. وبرعاية الكنيسة جرى انتخاب “ميخائيل رومانوف” نجل بطريرك الكنيسة الروسية؛ ليصبح حاكما للبلاد لتبدأ مرحلة توحيد روسيا وتوسعها مجددا، ولتظل أسرة “رومانوف” مهيمنة على السلطة في البلاد لمدة ثلاثة قرون، وحتى قيام الثورة البلشفية في عام 1917، والتي اغتالت قيصر روسيا الأخير “نيكولاي الثاني”.
من البر إلى البحر
وبحسب “دوجين” يعتبرعهد بطرس الأكبر نقلة نوعية في جغرافيا السياسة فى روسيا؛ فقد غير أسلحة روسيا من قوة البر إلى قوة البحر؛ مؤسسا أسطولا روسيا عصريا بخبرة من أوروبا، وجهه لاستنزاف طاقة الدولة العثمانية، وبعد أن حقق مكاسب ملموسة على الجبهة التركية في الجنوب، توجه إلى الجبهة الشمالية مع السويد، التي نجح في أن ينتزع منها منفذا على بحر البلطيق، وهناك شرع فى تأسيس عاصمته الجديدة “سان بطرسبرغ ” وبداية من عام 1722، لاحظت روسيا الانهيار الداخلي في بلاد فارس، فسارع الجيش الروسي لاحتلال الساحل الغربي لبحر قزوين، ويمكن اعتبار روسيا في عهد بطرس الأكبر قوة أوروأسيوية بكل معنى الكلمة.
وبمؤامرة داخل القصر وصلت “كاترينا الثانية” إلى العرش في عام 1726، وظلت تحكم البلاد لمدة 34 سنة، يصفها بعض المؤرخين بالعصر الذهبي للامبراطورية الروسية، حيث توسعت أراضى الدولة بشكل كبير؛ نتيجة ضم الأراضي الجنوبية الخصبة للقرم، وفي عهدها بدأ الاستعمار الروسي لجزر “ألوتيان” و”ألاسكا” وبعد وفاتها اعتلى العرش الإمبراطور “بافل” وبسبب الصراع داخل القصر؛ اغتيل وتولى السلطة ابنه “ألكسندر” الذي تولى عقد تحالف مع إنجلترا ضد فرنسا، وهو ما اعتبره المؤرخون خطأ فادحا، حيث أعلنت فرنسا الحرب على روسيا التي تلقت سلسلة هزائم؛ اضطرت موسكو لإنهاء التحالف مع بريطانيا وعقد تحالف مع فرنسا؛ لم يدم طويلا حيث اتهم “نابليون” الروس بالخيانة؛ وشن في عام 1812 حربا لاحتلال الاراضى الروسية، وتقدم الجيش الفرنسي في البداية وحقق نجاحات كبيرة وصلت الي حد إحراق موسكو، إلا أن الروس تمكنوا من إنهاكه وتدميره بالكامل. وفي 31 مارس 1814، دخلت القوات الروسية بزعامة الامبراطور “ألكسندر الأول” باريس على رأس قوات التحالف الاوروبية.
ويؤكد “دوجين” أنه منذ بداية حكم “ألكسندر الأول” وتحديدا في عام 1813، بدأ ما يسمى بـ “اللعبة الكبرى” في تاريخ العلاقات الدولية، مشددا على أن دافع الامبراطورية الروسية في التوسع شرقا، كان الرغبة فيما أسماه بتمدين شعوب الدول المتخلفة في آسيا الوسطى، والوصول لسلع ذلك الإقليم، خاصة القطن. ومن ثم كانت القوقازجزءا مهما من مسرح اللعبة الكبرى حيث جرت المواجهة بين روسيا وبريطانيا، كما كانت الإمبراطورية العثمانية المتداعية جزءا من مسرح الصدام. وفي عام 1854، نشبت الحرب بين روسيا وتركيا في شبه جزيرة القرم، وكانت المفاجأة أن الجيش الروسي تكبّد سلسلة من الهزائم، واضطرت روسيا إلى التوقيع على اتفاقية باريس للسلام، التي منعت بموجبها من أن يكون لها قوات بحرية عسكرية في بحر البلطيق، وانتظر الروس عقدين كاملين قبل أن يشنوا هجوما جديدا على تركيا ويحققوا بعض الانتصارات.
ويشير كتاب “جغرافية السياسية في روسيا” إلى أنه في عام 1885، وضمن فصول ما وصفه “دوجين” باللعبة الكبرى وقعت روسيا وبريطانيا اتفاقية تشكيل لجان عسكرية مشتركة لتحديد الحدود النهائية بين روسيا وافغانستان، وكان ذلك نوعا من المساومة.. فروسيا ضمنت سيطرتها على أسيا الوسطى وبريطانيا ضمنت عدم توغل روسيا إلى الهند.