في ديسمبر عام 1985، كتب الصحافي البريطاني تيدي كولمان في صحيفة الجارديان البريطانية، مشاهداته وانطباعاته عن زيارته إلى مدينة القدس.
فقال: “عرفت أنني غير متأثر كثيرا بالعهد القديم (التوراة والأسفار الخمسة)، فالكلام عن أن داود كان هنا، وداود كان هناك، وما قاله الدليل السياحي من أن آدم وحواء دُفِنا في الخليل، كلها حكايات لا يملك المرء إلا أن يبتسم لها. وبعد بضعة أيام، لم أشعر بأي حزن إزاء مشاهدة حائط المبكى؛ ولكن مسجد عمر (المقصود مسجد قبة الصخرة) المقام بالقرب منه، كان أكثر أهمية بالنسبة لي. وتحت القبة الذهبية العظيمة توجد الصخرة، وهي الصخرة التي عرج من فوقها النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- إلى السماء. ولا يستطيع المرء إلا أن يحس بالخضوع داخل هذا المبنى المذهل. وأقولها بصراحة: إنني لم أحس بالخشوع إلا في هذا المكان”.
لم يكن تيري كولمان الوحيد الذي كتب مشاهداته وانطباعاته عن مدينة القدس؛ ولكن سبقه إلى ذلك العديد من المؤرخين والكتاب وعلماء الآثار والفنون. بل وسبق الجميع إلى ذلك الرحَّالة، وخاصة المسلمين منهم.
والواقع أن ذلك يبدو منطقيًا، إذ تمثل القدس عند المسلمين تاريخا مقدسا، حيث المسجد الأقصى، وحيث موطن إسراء النبي-عليه الصلاة والسلام- بل لا نغالي إذا قلنا إن القدس لم تكن في يوم من الأيام، ولن تكون بالنسبة إلى المسلمين مجرد مدينة على الخارطة.
قولنا الأخير هذا وإن كان يدل عليه مقولة “إن القدس هي أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين” فإن ما يوضحه ويشير إليه في آن، ما ذكره العديد من الرحالة المسلمين عن القدس في مختلف الأزمان، وهذا بعض مما جاء ذكره في أبحاث ندوة “القدس.. التاريخ والمستقبل، 1997” حول ما كتبه الرحالة المسلمون عنها.. نثبته هنا كنوع من التوثيق.
ـ ففي زمن الأمويين والعباسيين..
نجد المؤرخ والجغرافي ابن الفقيه الهمذاني (ت: 290 هـ / 902 م) يتحدث عن مدينة بيت المقدس موضحا مكانتها الدينية في نفوس المسلمين.
ومن الأمور الجديرة بالملاحظة، أن ابن الفقيه حرص على إيراد تميز القدس بالأماكن الدينية المقدسة وأهميتها الدينية؛ حيث أشار إلى ذلك بقوله “شدد الله عز وجل ملك داود عليه السلام ببيت المقدس، وسخر الله له الجبال والطير، ووهب الله عز وجل له سليمان عليه السلام بها. واصطفى الله عز وجل مريم بها على نساء العالمين. وفي الخبر “من صلى في بيت المقدس فكأنما صلى في السماء”. وقال الرسول –عليه الصلاة والسلام–: “لا تشد الرحال إلى أفضل من ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، ومسجد بيت المقدس”.
ويستطرد ابن الفقيه الهمذاني، تبيان أهمية القدس ومكانتها، قائلًا: “وهى أول أرض بارك الله عز وجل فيها [يقصد: الآية الأولي من سورة الإسراء، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ”].. وبها، صدَّقَ إبراهيم الرؤيا “.
ـ وفي زمن الفاطميين..
نجد الرحالة الفارسي ناصر خسرو علوي (ت: 481 هـ / 1081 م)، والذي كان من الرحالة المسلمين المشهورين في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي).. نجد هذا الرحالة يصف وصفًا دقيقًا رحلته إلى مدينة القدس.
يقول خسرو: “وهى مدينة مشيدة على قمة الجبل، ليس بها ماء غير الأمطار. وهي مدينة كبيرة، وبها أسواق جميلة وأبنية عالية، وكل أرضها مبلطة بالحجارة، وقد سوى أهلها الجهات الجبلية والمرتفعات، وجعلوها مسطحة، بحيث تغسل الأرض كلها وتنظف حين تنزل الأمطار. وأهل الشام وأطرافها يسمون بيت المقدس “القدس”…”.
ويستطرد خسرو، واصفًا المدينة في موسم الحج، فيقول: “ويذهب إلى القدس في موسم الحج من لا يستطيع الذهاب إلى مكة من أهل هذه الولايات (ولايات الشام). كذلك يأتي لزيارة بيت المقدس من ديار الروم كثير من النصارى، واليهود. والخيرات ببيت المقدس كثيرة ورخيصة”.
ـ وفي زمن حروب “الفرنجة”..
نجد الرحالة المسلم الكبير ابن جبير (ت: 617 هـ / 122 م)، الذي أرخ لرحلة هامة تناول فيها العديد من الجوانب السياسية، والحربية، والاجتماعية، والاقتصادية، والعقائدية، في حياة بلاد الشام في زمن الحروب الصليبية (حروب الفرنجة).
وتجدر الإشارة إلى أن ابن جبير، الرحالة الأندلسي الذي قدم إلى بلاد الشام (خلال القرن السادس الهجري) لم يدخل مدينة بيت المقدس، لأنها كانت خاضعة للاحتلال “الفرنجي”، إلا أنه أورد إشارات عن الأماكن الدينية الإسلامية والمسيحية بالمدينة. بل إن الملاحظ، أن هذا الرحالة (ابن جبير) قد عقد المقارنة بين الأماكن الإسلامية في المدينة والأماكن الإسلامية الأخرى (في الشام والحجاز).
ومن إشاراته إلى ذلك: “وطول مسجد الرسول –عليه الصلاة والسلام– ثلاث مائة ذراع، وطول مسجد بيت المقدس، أعاده الله للإسلام، سبع مائة وثمانون ذراعًا، وعرضه أربع مائة وخمسون ذراعًا…”. وبالإضافة إلى ذلك، نجده يعقد مقارنة بين قباب الجامع الأموي بدمشق، وقبة الصخرة بمدينة بيت المقدس. ومن إشاراته في هذا الشأن: “إنه ما على ظهر المعمور أبعد سموًا ولا أغرب بنيانًا من هذه القبة – قبة الجامع الأموي بدمشق – إلا ما يُحكى عن قبة بيت المقدس، فإنه يُحكى أنها أبعد في الارتفاع والسمو من هذه”.
ولعل ابن جبير لم يكن الوحيد الذي قدم مثل هذا الوصف لمساجد القدس، من أبناء جيله. فها هو الجغرافي المسلم الشريف الإدريسي (ت: 560 هـ / 1164 م) الذي قدم إلى بلاد الشام في زمن الحروب الصليبية (حروب الفرنجة)، ليصف مدينة بيت المقدس في هذا الزمان؛ حتى أن البعض قد أشار إلى أن: “وصف الإدريسي للمدينة لا يدع مجالًا للشك في أنه يعبر عن رؤية شاهد عيان معاصر للوجود الصليبي بها”.
وقد كتب الإدريسي عن المزارات المسيحية والأماكن الدينية الإسلامية في مدينة بيت المقدس؛ فتحدث عن المسجد الأقصى، واصفًا إياه بأنه: “ليس في الأرض كلها مسجد على قدره إلا المسجد الجامع الذي بقرطبة من ديار الأندلس”.
ـ وفي زمن المماليك..
نجد الرحالة المسلم ابن بطوطة الطنجي (ت: 779 هـ / 1371 م)، الذي يعد من أهم الرحالة المسلمين في العصور الوسطى؛ نجده في رحلته التي تسمى “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” قد ترك وصفا دقيقا وهاما لمدينة القدس (التي زارها للمرة الأولى في زمن المماليك).
وإضافة إلى ما أشار إليه ابن بطوطة من أعمال للملك الصالح صلاح الدين بن أيوب، والسلطان المملوكي الظاهر بيبرس، لحماية بيت المقدس من أعدائها؛ نجده يذكر بعض علماء القدس، كنوع من وصفه للحياة الاجتماعية والعلمية في المدينة “منهم قاضي القدس العالم شمس الدين محمد بن سالم الغزي. ومنهم خطيب القدس عماد الدين النابلسي”.
أما الجغرافي المسلم الكبير القزويني (ت: 682 هـ / 1283 م)، فقد وصف بيت المقدس في زمن المماليك؛ فنجده يصف الأماكن الدينية الإسلامية، مثل: المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وكذا الأماكن الدينية المسيحية، مثل: كنيسة القيامة.
ومن جهة وصف المدينة، والنشاط الاقتصادي بها، فقد أشار القزويني إلى أن “مدينة بيت المقدس متوسطة الحر والبرد، وقلما يقع بها الثلج، ولا نرى أحسن من بنيانها، ولا أنظف ولا أنزه من مساجدها، قد جمع الله فيها فواكه الغور والسهل والجبل.. واللوز.. والجوز.. والموز..”.
وختامًا، لا يسعنا إلا القول بأن كتابات الجغرافيين الرحالة المسلمين عن مدينة القدس، قد أفادت في تقديم صورة كاملة عن أهمية المدينة، على الأقل: من حيث مكانتها الدينية كما تعبر عن ذلك العديد من الأماكن المقدسة فيها… يتبع.