لقد كانت عكا على مر تاريخها محط أنظار الكثيرين، من الطامعين في السيطرة على المنطقة المركزية من العالم، والتي كانت تُعرف بالشرق الأدنى القديم، وهي المساحة الواقعة شرق البحر المتوسط (وتضم بلاد الرافدين والشام ومصر القديمة وإيران القديمة وأرمينيا والأناضول). وعكا كانت أحد أهم الموانئ الشرقية لهذا البحر الذي يربط العالم أجمع شرقه وغربه وشماله وجنوبه؛ لذلك فهي تتميز بكونها واحدة من أعرق المدن القديمة في فلسطين إذ توالت عليها حركات الاستيطان البشرية على مر العصور.
وقد شهدت عكا منذ تأسيسها قيام حضارات عديدة؛ ما زالت شواهدها موجودة حتى الآن.. فتلك المدينة القديمة المذكورة في الكتاب المقدس في سفر القضاة في العهد القديم (31:1) باسم (عكو) وفي سفر أعمال الرسل في العهد الجديد (7:21) باسم (بتولمايس) يرجع المؤرخون تاريخ تأسيسها إلى الألف الثالثة قبل الميلاد على يد القبائل الكنعانية التي يذكر المؤرخ “ابن جرير الطبري” [ت. 310هـ/922م] أنهم كانوا من العرب البائدة. وبالرغم من أن الكنعانيين وهم قبائل بدو عربية انتقلوا من شبه الجزيرة العربية شمالا إلى بلاد الشام التي تشمل الآن سوريا ولبنان والأردن وفلسطين؛ حيث خصوبة التربة وغزارة الأمطار واعتدال المناخ، وكانوا هم أول قوم عرفهم التاريخ المدون في فلسطين، إلا أن الارتحال من شبه الجزيرة نحو الشمال قد بدأ قبلهم بآلاف السنين على شكل متقطع. ولم يكن الكنعانيون وحدهم هم من هاجروا من العرب إلى بلاد الشام، بل شاركتهم قديما قبائل أخرى عربية، مثل قبائل عاد وثمود والعماليق وقحطان وحِمْير وغيرهم.
ويذكر العهد القديم “أرض كنعان” التي فيها “حبرون” وهي الخليل حاليا حيث دفن إبراهيم زوجته سارة في مغارة حقل المكفيلة وفقا لسفر التكوين (19:23). وفي سفر العدد (29:13) “العمالقة ساكنون في أرض الجنوب، والحِثِّيُّون والبَيُوسِيُّون والأمُوريُّون ساكنون في الجبل، والكنعانيون عند البحر وعلى جانب الأردن.” وفي سفر صفنيا (5:2) ” وَيْلٌ لسكان ساحل البحر أمة الْكِريتيِّين! كلمة الرب عليكم:”يا كنعان أرض الفلسطينيين، إني أُخرِبُكِ بلا ساكنٍ.” وبالتالي فإنه وفقًا للعهد القديم تكون تلك المنطقة قد حملت اسم “أرض كنعان” حتى وصول القبائل الكريتية، وهم من شعوب البحر التي نزحت إليها من جزر كريت اليونانية عام 1200ق.م. وباستقرار تلك القبائل في شواطئ يافا وغزة تم تسمية تلك المنطقة الساحلية الجنوبية من أرض كنعان بفلسطين نسبة إليهم. ويقال إن كلمة “فلسطين” باللغة الكنعانية تعني “الجبَّار” نسبة إلى أهلها الذين استوطنوها من العمالقة.
وبسبب موقعها الساحلي كانت عكا مركزًا تجاريًّا هامًّا على مر العصور؛ إذ أن ذلك المرفأ الطبيعي كان يستقبل القوافل التجارية من الشرق ومن الشمال ومن مصر جنوبًا ومن ثم ساهم موقعها الجغرافي في ازدهارها وأيضًا في محاولة السيطرة عليها. لذلك لا عجب في تعاقب الغزو على ميناء عكا (عكو) –الذي يعني الرمل الحار– منذ عهد المصريين القدماء. ففي القرن الـ 15 ق.م. وفي عام 1479 ق.م. (وفقًا لبعض الحسابات) كانت عكا من بين المدن التي احتلتها جيوش الملك “تحتمس الثالث” سادس ملوك الأسرة الـ 18 الذي استطاع السيطرة على الساحل الفينيقي بأكمله (لبنان وفلسطين حاليًا)، وذلك إثر انتصاره في موقعة مجدو الشهيرة على المتمردين الكنعانيين بقيادة ملك قادش، ووصلت مصر في عهده إلى أقصى اتساع لها. و لقد سُجِّل هذا الانتصار على جدران هيكل آمون في معبد الكرنك بالأقصر.
ثم في أواخر القرن الـ 13ق.م. سيطر عليها الملك “سيتي مرنبتاح” أو “سيتي الأول” ثاني ملوك الأسرة الـ 19 الذي قام بتوطيد سلطة مصر آنذاك على فلسطين والشام. كما سجل ابنه “رمسيس الثاني” الذي حكم مصر سبعة وستين عامًا (تقريبًا من عام 1304أو 1279ق.م. إلى عام 1237 أو 1213ق.م.) على الجدار الشمالي لمعبده في أبو سمبل (جنوب غرب أسوان) مناظر توثق فتحه عكا.. وهو ما يُعرَف بـ “أنشودة معركة قادش” التي تؤرخ للمعركة التي انتصر فيها على الحيثيين في العام الخامس من حكمه، وقد انتهت تلك المعركة بعقد معاهدة صلح بين الطرفين، كانت أول معاهدة سلام مكتوبة وموثقة في التاريخ.
وظلت عكا تتنقل على مدار تاريخها بين الغزاة والفاتحين.. فمن استطاع السيطرة عليها غازيا كان يرى نفسه فاتحا لها، ولكن سواء كان المُسمَّى هو الغزو أو الفتح فهو في النهاية احتلال لأرضها، فإذا حمل الغزو معه الظلم والبطش والطغيان والتنكيل بأهل البلاد وسبيهم، فقد تكون هناك مقاومة ضده تعوق استقراره، أما إذا حمل معه العدل والسلام فلا مانع من التعايش والاندماج فيكون المحتل بذلك فاتحا للبلاد ليس فقط من الناحية العسكرية؛ بل أيضًا فيما يتعلق بشئون الحكم التي ستمكنه من الاستقرار والنمو في البلاد المفتوحة.
وهكذا وقعت عكا قديمًا تحت سيطرة الكثيرين من الطامعين فيها، مثل الحيثيين والفينيقيين والآشوريين والبابليين إلى أن استولى عليها الفرس عام 586 ق.م ثم ضمها الإغريق إلى حوزتهم بقيادة “الإسكندر المقدوني” عام 332 ق.م وبعد موته وانقسام إمبراطوريته بين قادة جيشه حكمها البطالمة في عهد الملك “بطليموس الثاني” [285-247ق.م.] وأطلقوا عليها اسم “بتولمايس” نسبة إليه، ثم السلوقيون في بداية القرن الثاني ق.م كما نجح الأنباط العرب في الاستيلاء عليها في الفترة [169ق.م.-106ق.م.] كما احتلتها جيوش الملك الأرمني “تيغران” أو “ديكرانوس الثاني” عام 69 ق.م.
أما الرومان فقد بسطوا سيطرتهم على فلسطين وعكا منذ عهد “بومبيوس الكبير” (بومبي) عام 64 ق.م ثم “يوليوس قيصر” عام 47 ق.م. ولقد اشتهرت آنذاك بنسج الحرير وصبغه بالأرجوان، كما أصبحت مركزًا تجاريًّا هامًّا. وفي القرن الأول الميلادي في عهد الإمبراطور الروماني “نيرون” [54-68م] زاد ازدهار عكا التجاري، خاصة تجارة الأسماك بسبب الاهتمام بإنشاء الطرق، ومنها الطريق الساحلي الذي يمر بها ويمتد من أنطاكية شمالًا حتى رفح جنوبًا. وفي أواخر القرن الرابع الميلادي، وحتى القرن السابع الميلادي، أصبحت مدينة عكا جزءًا من الإمبراطورية البيزنطية الشرقية، وذلك إثر انقسام الإمبراطورية الرومانية إلى دولتين إحداهما شرقية والأخرى غربية.
ومنذ النصف الأول من القرن السابع الميلادي بدأ ظهور المسلمين كقوة تسيطر دولهم المتعاقبة على عكا منتزعة إياها في بادئ الأمر من سيطرة الإمبراطورية البيزنطية لتبدأ بعد ذلك الحكايات التي أطلقنا عليها اسم “قصة مايو عكا” لارتباطها بشهر مايو (أيَّار)، وكيف صادف ذلك الشهر وقوع أحداث مهمة في تاريخ عكا في ظل الصراع عليها بين المسلمين والفرنجة وما عُرِف بالحروب الصليبية في العصور الوسطى.
وهذا ما سوف نلقي عليه الضوء في المقال القادم.