بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع 360
في الجزء الأول من هذا المقال ناقشنا المداخل الأربعة الأولى التي تهدد الحوار الوطني الذي بدأ عمليا مع انطلاق أولى جلسات مجلس أمنائه يوم الثلاثاء الماضي. وفي هذا الجزء نستكمل أربعة مداخل اخرى على أمل أن تكون تحت بصر القوى والجهات والشخصيات المشاركة في الحوار والمعنية بعدم إضاعة فرصة نادرة أخرى على مصر.
المدخل الخامس:
هو ما أسميه الموقف “المكارثي” للطبقة المهيمنة على الاقتصاد المصري من الحوار.
عندما تقارن خطاب الرأسمالية الغربية برأسماليتنا المصرية تكشف حجم واقعية وديمقراطية الأولى وانفتاحها على الحوار والنقد. وحجم عدم واقعية وعدم ديمقراطية الثانية وعدائها الشديد للحوار والنقد.
فعندما تجد المستشار الألماني اولاف شولتز -زعيم ثالث أكبر اقتصاد في العالم- يبادر بنفسه قبل أن تبادر المعارضة بالقول “إن تداعيات الحرب الأوكرانية على بلاده قد تقود إلى انفجار اجتماعي”. وتجد مثقفو الطبقة المهيمنة عندنا يعتبرون أن حديث المعارضة المدنية السلمية قبل الحوار عن مجرد “احتقان اجتماعي” وليس انفجارا! هو تحريض سياسي يلتقي مع تحريض الإخوان من الخارج. وأن حديثها عن تزايد الفقر والفقراء “مثبت بأرقام الحكومة نفسها” وتراجع معيشة الطبقة الوسطي أو أننا لدينا رأسمالية متوحشة “انتقلت من مرحلة القطط السمان في عهد السادات إلى مرحلة تزاوج الثروة والسلطة في عهد مبارك” إنما هو تشكيك وخطر يجب مواجهته. عندما ترى ذلك كله تكتشف حجم الإرهاب الفكري الذي تواجه به هذه الطبقة خطر أن ينجح الحوار في تهديد استحواذها على معظم الثروة الوطنية. خاصة إذا تمكن الفاعلون فيه من إعادة النظر في السياسة النيوليبرالية المتوحشة التي انتهجها فريق جمال مبارك ضمن مشروع التوريث. وهي السياسة التي ما زالت مسيطرة على النهج الاقتصادي للحكومة حتى الآن. مع استمرار مثير للدهشة للهيمنة الفكرية نفسها لمن كانوا حول جمال وأبيه ولم ينجحوا في السابق في منع مصيرهما المحتوم.
المدخل السادس:
مقاومة أن ينجح الحوار في إعادة الاعتبار إلى السياسة التي تم تجفيفها وتحقيرها باعتبارها ترفا زائدا وكلاما فارغا وما قد يتبع إعادة الاعتبار هذه من إعادة صياغة دور الأمن وتقليص الدور السياسي للمؤسسة الأمنية الداخلية. وإعادتها بكل الاحترام نحو نطاقها المهني الطبيعي وهو حفظ الأمن وحماية المجتمع ومنع الجريمة وضبط العنف الاجتماعي المتزايد. وإكمال مهمة القضاء على الإرهاب الأسود مع القوات المسلحة والأجهزة السيادية الأخرى المختصة. وهي مهمة ينبغي تأكيد حدوث نجاح كبير فيها. كما ينبغي تقديم كل الاحترام لشهداء هذه المؤسسة ومؤسسة القوات المسلحة الذين ضحوا بأرواحهم من أجل مصر.
هذه المقاومة تبدت في صورة نداءات علنية لم يسبق أن شهدها حوار سياسي في بلد آخر. ألا وهو ضرورة أن يحضر مندوبون مباشرون للأمن في الحوار مع أن هؤلاء لو انتظروا تشكيل مجلس أمناء الحوار كانوا سيجدون أنه عبر في تشكيله عن توازن دقيق بين التيارات والمؤسسات بما في ذلك مؤسسات الأمن.
المدخل السابع:
هو ما أميل إلى تسميته بإعادة تكرار الخطأ التاريخي للإخوان المسلمين عموما منذ الإعلان الدستوري الكارثي للرئيس الراحل محمد مرسي في 2012. خصوصا مع الدعوة للنزول الشعبي ضدهم في 30 يونيو 2013.
هذا الخطأ هو التحقير من المعارضة المدنية لأنها ممزقة ومنقسمة وغير منظمة. وجادلوا المؤسسة العسكرية وحلفاءهم الأمريكان وقتها بأنها زوبعة في فنجان وأن جيوش التنظيم الإخواني المعبأة ومعها جحافل التيارات السلفية والجهادية في “تحالف دعم الشرعية” الذي أسسه المهندس خيرت الشاطر سيقضي عليها ويبتلعها كما ابتلعت عصا موسى عصي سحرة فرعون.
تجاهل هؤلاء قيمة الوزن الأخلاقي للحق في المشاركة ورفض التمكين والمغالبة الإخوانية من كل القوى السياسية المدنية المصرية. فكانت النتيجة هزيمة ساحقة لأكبر تنظيم إسلامي مصري وإسلامي وعالمي في مواجهة من وصفوهم تارة بـ”حفنة من المثقفين” تارة و”حفنة من العلمانيين” تارة أخرى.
للأسف وفي لحظة يتكرر فيها الحديث هذه الأيام عن دروس 30 يونيو يكرر البعض الخطأ نفسه ويعيدون عزف النغمة النشاز نفسها.
فعندما يطرح المعارضون المدنيون -الذين تجاوبوا مع دعوة الحوار بمسئولية وطنية عالية- أفكارهم للإصلاح أو شروطهم المعروفة لتغيير المناخ العام. مثل ضرورة إطلاق سراح فوري لسجناء الرأي غير المتورطين في عنف أو في التحريض على العنف. يكون الرد بأي حق تتكلمون؟ أنتم لا وزن لكم! أنتم أفراد بلا تأثير! أنتم أحزاب مهترئة!.. إلخ. لا يعكس هذا الاقتراب أبدا استفادة من دروس التاريخ حتى القريب جدا منها. ولا يشكل بالقطع بيئة سياسية مواتية لحوار متكافئ وعقلاني.
المدخل الثامن:
استباق الحوار بمواقف تعجزه وتقيد يديه في القدرة على الخروج من الأزمة والتعبير عن كل المصالح وليس مصالح فئة اجتماعية بعينها.
هذا المدخل يعد من أخطر المداخل الثقافية والإعلامية الثمانية التي رصدناها كتهديد للحوار. إذ إن الحوار كما فهمته المعارضة بشكل صحيح أنه عمل إصلاحي وليس جذريا يقوم على شرعية دستور 2014. وهذا لا يعني تغيير النظام السياسي وإنما التوافق على إصلاح سياسات ومناخ عام قادا إلى الأزمة الحالية. فإن الموالاة يجب أن تفهمه أيضا وبالقدر نفسه على النحو الصحيح. وهو أنه ليس كرنفالا احتفاليا أمام العالم ينتهي إلى ثبات السياسات كما هي وبقاء المناخ العام مغلقا كما هو ويكون الخاسر الوحيد ساعتها هي المعارضة التي ستضيع مصداقيتها وتاريخها السياسي.
لو تبادل الطرفان هذا الفهم البراجماتي فإنهما لن يضيعا فرصة قد تؤدي خسارتها إلى عودة الحلول الصفرية التي لا يبدو الوطن مهيأ لها.
عنوان هذا الفهم هو التوقف عن المدخل الاستباقي الذي يطرح مواقف من المعارضة يصعب قبولها. ويطرح من الموالاة ومن الحكومة بعض القرارات تجعل الحوار بلا سلطة حقيقية لإنجاز إصلاح حقيقي يشعر به الشعب المصري والعالم المتابع للحوار باهتمام.
من أمثلة هذا الاستباق طرح البعض في المعارضة أن تتم أولا عملية محاسبة لما جرى في السنوات الأخيرة. وهذا مطلب تعجيزي لحل بطبيعته هو حل وسط وليس ثوريا. لكن لأن هذا طرح معارض فيظل استباقا معاكسا للحوار دون تأثير كبير عليه. إذ لا يملك فرضه في الواقع.
الأخطر هو استباق الحكومة والموالاة لأنها تطرح قرارات بوشر العمل بها وبسرعة فائقة بحيث تخلق أمرا واقعا يصعب على الحوار تغييره وهذه مشكلة كبرى.
على سبيل المثال قرارت الحكومة بالمضي قدما في عملية “خصخصة” واسعة النطاق تمنع ممثلي المدارس الاقتصادية المصرية في مجلس الأمناء مثل الدكتورة جودة عبد الخالق وما قال به ممثلو مدارس ليبرالية معتدلة خارج المجلس من طرح خيارات على مائدة الحوار “أفضل ألف مرة من الخصخصة المباشرة”. والتي لا تضيف أصولا ولا إنتاجا جديدا.
هذه الخيارات ميزاتها لا تقف فقط عند حماية أصول تمت بكفاح طويل للشعب المصري. ولكن أيضا تقود للتركيز على الاستثمار المباشر الوطني والأجنبي في الصناعة والزراعة. سواء في هذه الأصول القائمة أو في مشروعات جديدة تحقق التشغيل وتخلق فرص عمل جديدة وتزيد بإنتاجها المتوقع قدرة مصر على تقليل حاسم في الواردات وزيادة حاسمة في الصادرات.
يجب أن تتعهد الحكومة هنا بأنها لن تستبق نتائج الحوار بأمر واقع يصادر على مستقبل الحوار ويجعل نتائجه حبرا على ورق. وأن تستجيب لمخرجات الحوار عندما تصدر حتى لو أدخل ذلك تغييرات ملموسة على حزمتها المعلنة لحل الأزمة. وهي حزمة مختلف عليها بشدة وتعيد إنتاج الأزمة. كما أظهرت بوضوح مناقشات البرلمان حتى من أحزاب كانت ضمن أحزاب القائمة الموحدة التي كان السياق العام بفوزها الساحق مؤشرا على أنها القائمة الأقرب للدولة.
تحييد هذه المداخل يحتاج إلى تحديد القوى المشاركة لنقطتين هامتين للغاية. الأولى هي المعنى أو المغزى السياسي للحوار. والثانية هي الهدف السياسي أو الغاية من الحوار. ولهذا حديث آخر نرجو أن يسهم في النقاش العام حول الحوار أو ما يعتبر التطور السياسي الأول في مصر منذ 8 أعوام.