منذ ١٩٨٠، وأنا في صحبة العلوم السياسية.. لم يمر سوى شهر واحد من الدراسة في ذلك العام إلا وقد عرفت مرادي.. أحببت موضوعاتها بشدة.. ونفرت من تطبيقاتها بشدة أيضا.. وبسرعة.
كنت محظوظا فيها.. وصلت إلى قناعة مبكرة عن السياسة.. حددت اختياري بشأنها، وهو أن أدرسها ولا أمارسها.. أن أبتعد عن السياسة ممارسةً، وأقترب منها ظاهرةً للبحث.. ورحمة الله على أستاذنا الجليل الدكتور محمود خيري عيسى؛ فقد ساعدني كثيرًا على الوصول مبكرًا إلى تلك القناعة.. كان أستاذًا واعيًا راقيًا مدققًا. قال لنا أن من يتخرج من قسم الاقتصاد مؤهلٌ ليكون اقتصادي، ومن يتخرج من قسم الإحصاء جدير بأن يكون إحصائي، ومن يتخرج من قسم العلوم السياسية.. ثم صمت ليستأنف قائلا: ليكون باحثًا في العلوم السياسية.. فهمت واقتنعت وسرت على هُدى تلك الإجابة ولم أندم. درست العلوم السياسية ثم واصلت البحث والتدريس فيها. أما الممارسة فجعلتها محلًا للدراسة وليس أبدًا للانشغال أو الاشتغال.. ودراسة العلوم السياسية وإن كانت لا تصنع السياسيين إلا أنهم لو تعلموها لربما أصبحوا ساسة أفضل.. فهي تتيح لمن يدرسها أدوات ومناهج ونظريات تساعد على فهم وتفسير ما يرونه حولهم من تفاعلات وأحداث.
وعلى مدار سنين من ١٩٨٠، وإلى اليوم وأنا تلميذ عاشق لهذا الفرع من العلوم الاجتماعية، درستها طالبا ثم درّستها أستاذًا.. ويبقى الأستاذ فيها كالطالب كلاهما يسأل ولا يكل أبدًا عن المعرفة؛ متواضع أمام هول وتعقيد المتغيرات والمفاجآت السياسية، ولفترة طويلة واصلت دراسة وتدريس العلوم السياسية تمامًا كما تقول الكتب رابطًا ما فيها من تجريدات بما تأتي به الأحداث والأيام من تحولات.. أشبعت نفسي بلغتها ومصطلحاتها ومفاهيمها ونظرياتها ونقلت ما أعرف منها إلى صفوف من الطلاب.. من بينها على سبيل المثال لا الحصر الدولة والبنائية الوظيفية والطبقة والتمايز الاجتماعي والتبعية والمنهج المقارن والواقعية والمثالية والإنشائية والليبرالية والماركسية والأصولية والأيديولوجية والقطبية والتعرض الانتقائي والاستبقاء الانتقائي والاحتواء والاستعمار الهيكلي وجماعات المصالح وأحزاب الكوادر والطليعة.. وكثير غيرها من مصطلحات قاموسها الهائل، وما كنت أسمعه دائمًا وأنا طالب ثم رددته مرارًا وأنا أستاذ – هو أن العلوم السياسية، مثل أخواتها الأربعة الرئيسية الأخرى في أسرة العلوم الاجتماعية وهي الاقتصاد والاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا، علوم محملة بالقيم value loaded sciences أي مليئة بالانحيازات والتفضيلات والرغبات.. وأن مهمة الباحث العلمي هي أن يضبطها قدر استطاعته حتى لا يميل فيتبع هواه، وهذا أمر مهم بلا شك وصفة يجب أن يتمسك بها كل من اختط العلم الاجتماعي سبيلًا لحياته لكن مع مرور السنوات، خاصةً بعد تخطي الستين، ازدادت قناعتي بأن التحرر من القيم والانحيازات والرغبات والتفضيلات ليس إلا وهمًا علميًا لذيذًا.. أو للدقة مسئولية عظيمة من أداها له أجران ومن لم يستطع فله على الأقل أجر المحاولة.. لماذا؟ لأن العلوم الاجتماعية كلها، والعلوم السياسية من بينها، علوم مشاعر، من يدرسها طالبًا أو يدرسها أستاذًا يحتاج إلى أن يبقى لصيقًا بفؤاده، فهي ليست عن النظريات الكبرى والمصطلحات الحادة والمناهج الكمية والكيفية الصارمة؛ وإنما تتعلق بأمور أبسط من هذا بكثير وأهم من هذا بكثير، إنها تدور حول كل ما فينا من خوف وأمل؛ إنها عن اليأس والاحباط.. الحب والفرح.. الاحترام والمتعة.. الحماس والانجذاب.. الحزن والإساءة.. المرارة والملل.. القلق والانتقام.. الإذلال والكرامة.. الحقد والتواضع.. الغرور والثقة.. الاشتياق والنفور.. الغيرة والهجر.. الكسل والسخط.. الكبرياء والتقدير.. الصبر والحيرة.. الإنكار والتمجيد.. الصفاء والارتباك.. الذنب والفضيلة… ومئات المشاعر الإنسانية التي لا تستطيع العلوم الاجتماعية أن تتجاهلها أو تجمدها أو تتجاوزها بدعوى الموضوعية المنهاجية والصرامة المعرفية. العلوم الاجتماعية، وإن طلب منها أن تقدم للطلاب نظريات ومناهج ومصطلحات، تبقى مسئولة عن أمر أهم.. عن أن تكثف في نفس من يهتم بها المشاعر الإيجابية، وأن تعلمهم أن العواطف البشرية طبيعية؛ عليهم أن يعبروا عنها بما يليق ويتفق مع طبائع الزمان والمكان الذي يعيشون فيه. هي علوم إنسانية تكلم الإنسان عن مشاعره وتعلمه كيف يفهمها ويعبر عنها ويوجهها؛ لا أن يختصرها إلى ورقة أسئلة مملة يقدم الطلاب إجابات روتينية عليها.. تردد ما في الكتب من كليشيهات دون أن تتاح لمن يدرسها لأربع سنوات أو أكثر فرصة واحدة للإفصاح عن ما في صدره من مشاعر.. إنها علومٌ للتعبير عن المشاعر وليس لكتمانها.