صدرت رواية “واحة الغروب” في طبعتها الأولى عام ٢٠٠٦، في القاهرة عن دار الهلال المصرية العريقة، وبلغ عدد صفحاتها ٢٩٠ صفحة، وبعد أن أثارت اهتماما بالغا في الأوساط الأدبية، كشأن غالبية أعمال الأستاذ بهاء طاهر؛ سارعت دار الشروق في القاهرة بإصدار طبعتها الثانية في عام ٢٠٠٨، وفي عدد من الصفحات اقترب من ٣٥٠ صفحة من القطع المُعتاد للأعمال الأدبية.
غير أن تلك الرواية المُدهشة في موضوعها، والرائدة في تاريخيتها، لاقت ما تستحقه من اهتمام عربي كبير، إذ فازت بالجائزة الأولى في المسابقة المعروفة بـ”البوكر” العربي في دورتها الأولى سنة ٢٠٠٨، حيث لم يقترب من قيمتها وموضوعها إلا القليل من ثمار الإبداع العربي في ذلك العام.
بيد أن النقلة الموضوعية الكبيرة جاءت في عام ٢٠١٧، حيث عرفت طريقها إلى عالم التليفزيون في مسلسل بديع؛ وصل عدد حلقاته إلى ثلاثين حلقة، وقد توافرت له كل عوامل النجاح من أداء تمثيلي متميز وتصوير بديع وإخراج بالغ الروعة للقديرة كاملة أبو ذكري؛ حتى ظهر إلى الوجود آية في الجمال والإبداع، رغم أن السيناريو والحوار لم يأتيا مُطابقين للنص الأدبي خصوصا في الحلقات الأخيرة من المسلسل!
غير أن أداء الفنان خالد النبوي الذي جسّد شخصية ضابط البوليس المصري “محمود عبدالغفار” وزميليه سيد رجب في دور “باش شاويش إبراهيم، وأحمد كمال في دور “الشيخ يحيى” فضلا عن المبدعة منة شلبي التي قامت بدور زوجته “كاثرين” ومعها الفنانة الأردنية ركين سعد التي قدمت شخصية “مليكة” باقتدار– قد غطى عَلى أي قصور في السيناريو والحوار الذي بدا أقل كثيرا من عبقرية الرواية، بنص وسرد الأستاذ بهاء طاهر.
وهكذا يواجه بهاء طاهر ما سبق أن واجهه أستاذه نجيب محفوظ بشأن أعماله الروائية التي عرفت طريقها إلى صالات العرض السينمائي، حيث كانت إجاباته المُعتادة، إذا وجِّه أي انتقاد لأحد الأفلام المأخوذة عن إحدى روايته هو: “لا شأن لي بما ترونه في صالات العرض السينمائي، تلك رؤية المخرج، ولكن اسألوني عما كتبته أنا، وصدر بين دفتي كتاب”.
ولذلك فحريٌ بنا الاستماع إلى نصيحة الأستاذ نجيب محفوظ بالعودة إلى نص الرواية لا غيرها.
وأول ملاحظاتنا هي الإشادة بطريقة البناء الفني الذي جمع بين الحقيقة والخيال، بين الصاغ “محمود عزمي” في الحقيقة، وذلك الاسم الإبداعي “محمود عبدالغفار” كما جاء في الرواية.
وكذلك نقف بالدهشة تجاه الثراء المعرفي الهائل والكبير عن تاريخية الرواية، حيث استلهم بهاء طاهر واستحضر روح مصر في تلك السنوات السوداء التي أعقبت انكسار الثورة العرابية واحتلال مصر.
وذلك الواقع الاجتماعي والأنثروبولوجي الذي كشف عما هو مجهول في حياة تلك القبائل والعائلات الكبيرة في واحة سيوة، إذ نجح المؤلف، في الغوص في تلك التقاليد المُهينة والمُذلة وذلك التقسيم الطبقي الفادح بين سكانها الذين يُعرفون باسم “الأجواد” وهؤلاء الفلاحين الفقراء الذين يعملون في الأرض كعبيد، ويُطلق عليهم اسم “الزّجالة”، ويُحَرّم عليهم دخول بيوت تلك العائلات ولا يجالسون رجالهم، فضلا عن رؤية أو مشاهدة نسائهم بطبيعة الحال، والتي تصل الى حد المُحرمات، بل المستحيلات.
هذه رواية ليست عادية، ولا قصة تظهر فجأة ثم تطوي صفحاتها، ثم تأخذ موضعها في سكون عَلى أرفف المكتبات.
هي دراسة تاريخية واجتماعية وأنثروبولوجية بامتياز.
جاء الفصل الثامن من الرواية والذي يحمل عنوان “الإسكندر الأكبر” قمة في الإبداع البحثي والتاريخي لهذا القائد المقدوني الفذ، فقد حشد المؤلف كمًا هائلا وموضوعيا للإحاطة بتاريخ “ابن الإله آمون” وعلاقته بواحة سيوة، وظروف تنصيبه ابنا للآلهة في معبدها القديم الموروث عن الفراعنة العظام.
وبروح وبرؤية الباحث الجاد والمحترم، حرص بهاء طاهر في نهاية روايته أن يذكر حكايته مع تلك المراجع والمصادر العلمية التي استقى منها معلوماته.
فقد ذهب إلى تلك الواحة الجميلة والآسرة قبل أن يبدأ في الكتابة، ليعيش أجواءها ومناخها وكيفية عبور الصحراء في أجواء عاصفة وخطيرة قبل أن يصل إليها!
فضلا عن الاعتماد على عدد من الكتب والمراجع المعتبرة، كان أهمها كتاب العلامة أحمد فخري عن واحة سيوة والذي وصفه الأستاذ بهاء بأنه كتاب يجمع بين دقة العالم الموسوعي، وأسلوب الفنان المطبوع، في استلهام أجواء سيوة في القرن التاسع عشر، لا سيما ما يتعلق بالحروب الداخلية والتعامل مع الأرامل.
وبشأن الإسكندر الأكبر وسيرته فقد رجع بهاء طاهر إلى عدد من كتب التاريخ أشهرها كتاب المؤرخ الروماني كورتيوس “حياة الإسكندر” والذي اعتنى بالجانب الإنساني أكثر من الاهتمام بالجوانب العسكرية والفتوحات والبطولات الحربية.
أما وقائع الثورة العُرابية، وتلك السنوات التي أعقبت انكسارها، فقد اعتمد فيها عَلى كتب الأستاذ عبد الرحمن الرافعي، وكذلك كتاب “التاريخ السري لاحتلال إنجلترا لمصر” للمؤرخ والمحامي البريطاني الشريف ألفريد بلنت والذي ترأس هيئة الدفاع عن الزعيم أحمد عرابي وقادة الثورة العُرابية، أمام هيئة القضاة المُكونة من جلادي الشعب، وعملاء الخيانة والإفك والضلال والاحتلال!