بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن صحيفة مصر 365
كما تبدّى هدوؤك وصمتك لاحقا شلالا هادرا من الموهبة والكتابة والصحافة، رطّب رذاذُها عقولنا ونفوسنا.. يتبدّى موتك المسالم كبحيرة ساكنة في غرفة مستشفى بيضاء، بعيدةٍ آلاف الأميال عن أسيوط ونخلاتها العاليات، زلزالا مدويا يعصف بالقلوب والأرواح حزنا ولوعة. وأي قلوبٍ وأي أرواح؟
فقد جمعت، بل بنيت على مدى عام ونصف من مرضك ومقاومتك الإعجازية له، جمعت حولك وحول إسراء ويحيي عائلة إنسانية، تمتد بين أركان الكون الأربعة.. عبرت حواجز الاستقطاب البشع الذي يفرش عتمته على حارتنا وبات آفتها. عبرت حواجز الأجيال وبحور الكراهية الأيديولوجية والمذهبية والشوفينية وحتى حواجز اللغة.. عائلة يربطها رباط واحد ويفرِّقها كل شيء آخر، هذا الرباط هو الاعتراف بنبوغك، دفقة من دفقات العبقرية في زمن ساد وتحكم في مقاديره الجهلة وأنصاف الموهوبين.
زلزال موتك الهادئ كعصفور ينام في حضن فتاة تحلم بالحب الأول.. هو هذا السؤال الذي يَرُجّنا بعدك رجا من الرأس إلى القدم: هل يقول لنا الخالق العظيم (وأستغفره استغفارا، ولا نقول إلا ما يرضيه) إنّ موتك المبكر معناه أن هذا المكان ومجاله العام وبيئته السياسية والاجتماعية والأخلاقية بات يضيق بالعبقرية واللمعان العقلي والانحياز للفقراء، الذين هم أولا وقبل كل شيء {يا أولاد الكلب} كما كانت صرخة إعلان ميلاد موهبتك على الناس في قصتك الصحفية الأولى في عام عمرنا الأجمل 2011.
ألم تعد أرض “كيميت” السوداء خصبة كما كانت؟ ألم تعد قادرة على احتضان بذور التفوق والموهبة والجدية والعصامية والعمل الجاد؟ هل التهمتها الحشائش الشيطانية التي زحفت على الأخضر واليابس، واعتصرت روحها في المهد، قبل أن تنبت سنابلها وتورق أغصانها؟
لله درك يا مصر.. تخسرين بِسُنّة الله في الأرض، وقضاء الموت علينا.. تخسرين عباقرتك في الفكر والفن والغناء والأدب والصحافة، فيستعصي عليك تعويضُهم، ويولد لك عباقرة جدد، فَتُضَيِّقِي عليهم مناخ الحرية والإبداع والاحتضان والرعاية والتعهد؛ فيخطفهم الموت خطفا كأنه حَدَأَة متوحشة تتربص بفلذات كبدك، فرائس تستلّها وتصعد بها إلى السماء؛ فلا تجددي شبابك ولا تجددي مصباح إشعاعك الذي أضاء لأمتك منذ قرنين ونيف طريقها، واقتنصها من وهدةِ تخلفٍ سحيقٍ، ساد ستةَ قرونٍ تقدّم فيه الغرب، فهيمن ونهب وتجبّر. تتلاشى قوتك الناعمة عندما تفقدين من الاتجاهين بموت بـ”البيولوجيا”، وموت الاختطاف الماكر قبل الأوان.
ويخفت صوتُ أغانيكِ وبريقُ شاشةِ هوليوود الشرق في عينيك، ويستجدي بعض من أولادك – منهم موهوبون- المال السائل على أعتاب الصحراء.
يا أبا يحيى وحبيب إسراء، لست الأول.. سبقك أندادٌ لك، قطفت زهرة حياتهم الواعدة قبل الأوان. أندادٌ لمعوا كالبرق، شُهبا في سماء حياتنا الكئيبة، واختفوا فقط ليبقوا على الأمل فينا: أن الحلم ممكن.. وأن العدل ممكن. موتك -يا حبيبنا- جدّد مواجعَ فقدِ، علي قنديل، قنبلة الشعر وطالب الطب مثلك، الذي اختطفت روحه عجلات عربة طائشة في بداية أزمنة الانفلات (أزمنة أنا ومن بعدي الطوفان، واحتقار القانون). مثل صاحب “كائنات علي قنديل الطالعة” ومثلك يا محمد، ذهب مبكرا في وقت آخر، في سرقة وخطفة أخرى، من خطفات ما قبل الأوان، عبقري آخر في البحث السياسي والاجتماعي هو السكندري جميل العقل والروح، الحبيب حسام تمام. هذا الحادي الذي دخل بنا سرداب أفكار وتنظيمات الإسلام السياسي؛ فأنار لنا ما غَمُضَ عنا، وما استغلق على أفهامنا، وحيّر بلابلنا.. سؤالٌ فاغرٌ فاه: كيف نما كل هذا التطرف والتشدد في وادينا الطيب؟ وكيف انفجر في وجوهنا وفي كنائسنا ومساجدنا وأطفال مدارسنا قنابل وطلقات رصاص؟!
ذرةٌ واحدةٌ نستعيرها من ذكائك الحاد؛ كافية لأن نعلم أننا نتحدث عن “الموت فجأة الذي لا يحب الانتظار” كما يقول محمود درويش. ولا نتحدث عن أنواع أخرى من موت العبقريات، جارية على قدم وساق، يموت فيها النابغون. وهم على قيد الحياة. موت الصمت والكمد والهجرة وإيثار السلامة. أو موت الغياب وراء الأسوار!!
تأملي معي يسارك اللامع، الذي لعب أهم الأدوار في حياتك الفكرية والثقافية في المائة سنة الأخيرة – هل عندك الآن قامات بوزن أمين العالم وغالي شكري ولويس عوض وإسماعيل صبري عبد الله وعبد العظيم أنيس.. وأستطيع أن أذكر خمسين اسما أخرى؟ هل عوّضتِ هيكل وعودة وبهاء من قامات الصحافة والكتابة… إلخ؟
أَمِنْ عُقمٍ في رحِمك الوَلُود الولّاد؟ لا والله وإنما من جو خانقٍ يطبق علي روح العبقرية والموهبة؛ فيقتل نموها فتذبل الموهبة، وتتحول للعادية الآسنة أو تنفجر إبداعا، ويتكفل السرطان اللعين أو يتكفل أهل الأقبية والمولعين بهندسة التفاعلات البشرية، وضبط اللسان والفكر على مقاس استمرار سلطتهم بإتمام مهمة “شفط روح” من أهدت الإنسانية أعظم هدية، وهي اختراع الكتابة التي خرجت من معطفها كل خطوات وإلهامات البشر، خروجا من عصر الكهوف وصيد الحيوان إلى عصور الحداثة والاستنارة.
كما كانت بدايتك في الكتابة يا محمد “أذان” الصوت الندي في أسماعنا، بأنه يوجد هنا موهبة عبقرية تطل برأسها – كان موتك جرس إنذار للمجتمع وقواه الحية، بأنه يوجد هنا -في بلدنا الحبيب- أزمة كبرى، مفادها أنّ رصيدنا من الموهبة والعبقرية، ينفد ويتآكل بصورة مخيفة. وما من أمةٍ ينفد رصيدها من النابغين والمتفوقين في كل مجال، إلا لحق الوهن بقوتها وتراجع تأثيرها في محيطها.. إلا وصار أمر شئون عقلها ووجدانها في التعليم والثقافة والفن إلى من يهوي بها في متوالية هندسية، إلى الدرك الأسفل من الحضارة والانغلاق والتعصب وعدم التسامح.. وعندئذ يسرق أو يشتري تراثها، من ليس له تراث، ويحتل الفراغ الذي تتركه، فيملأه كيفما شاء له أو شاءت له أمواله أن يملأه.
وأقول ليحيى إنّ أباك محمدا لم يمت.. مستعيرا هنا ما قاله الكبير أمل دنقل، لأسماء ابنة الكبير يحيي الطاهر عبد الله عند وفاته: ليت أسماء تعرف أن أباها صعد..
لم يمت..
هل يموت الذي كان يحيا كأن الحياة أبد؟!
*”يا هوايا عليك يا محمد” جزء من قصيدة ناجي فيها الشاعر الكبير احمد عبد المعطي حجازي أخاه محمد.