كالعادة بمجرد انتهاء امتحانات آخر العام كانت أمي تحزم الحقائب وننطلق إلى الإسكندرية، حيث كانت شقتنا الصغيرة في منطقة الشاطبي. كنت وإخوتي نتبرم منها بعد أن تركنا مسكننا الأصغر بالعصافرة، قُرب شاطئ ميامي الذى كان أكثر الشواطئ جاذبية.
لا أدرى لماذا ذهبنا إلى الإسكندرية في هذا الوقت، بينما كانت أخبار المواجهة المحتملة مع إسرائيل تتتابع يوميا، وتنذر بالحرب. ربما لأن قليلين كانوا يتوقعون وقوع الحرب فعليا. بقي أبى في القاهرة، وكان يأتي إلينا مساء الخميس، ويعود للقاهرة صباح السبت.
في الخامس من يونيو اندلعت الحرب، والتصقت آذاننا بالراديو نستمع لأخبار إسقاط الطائرات وصيحات الأمل بالنصر، وتناول العشاء في تل أبيب. لكن لم ترد أنباء عن تقدم في المعارك، وبعد يومين انقبض قلبي ببيان مقتضب عن “تجمع قواتنا عند خط الدفاع الثاني وسط سيناء”. كُنا معزولين في البيت، ولم يكن سهلا تبادل الآراء، لكن كانت البيانات تأتى قصيرة، ذابت فيها نغمات الحماس، وغشت روح كئيبة أصوات المذيعين.
وفى عصر الخميس الثامن من يونيو، تسلل صوتٌ -ربما كان صبري سلامة- يقول بانكسار “ساد الهدوء الآن على كل جبهات القتال”، وتعثرت كلماته في أذني عن وقف إطلاق النار ومجلس الأمن. بعدها بقليل وصل أبى من القاهرة، كان وجهه مكفهرًا وعليه علامات حزن وحيرة؛ على عكس ابتسامته المعتادة، حين كان يلتقى بنا.
أعلن الراديو أن الرئيس سيتحدث للأمة غدا، لم يكن أبى يحب عبد الناصر؛ ككثيرين من جيل الوفد القُدامى لكنه كان يحترمه، عرفت فيما بعد أن خاله كان صديق النحاس باشا، وكان سكرتيرا بمجلس النواب. في مساء اليوم التالي الجمعة ٩ يونيو تحلقت أسرتنا الصغيرة حول الراديو الكبير في غرفة نوم أبوينا، وجلسنا نحن الخمسة على سريرهما نحتمى ببعضنا في صمت وترقب، وران علينا خوف مبهم من خطر مجهول يوشك أن يقع. عندما يبدأ خطاب الرئيس.
جاء صوته خافتا حزينا، وخرجت كلماته مختنقة بعبرات لم نرها، تكلّم عن الساعات الحلوة والساعات المرة، مُنهِيًا للأمة أننا واجهنا نكسة خطيرة، وأن العدو الذي توقعناه من الشرق جاء من الغرب، وقبل أن نفهم معنى ذلك إذا به يعلن؛ أنه يتحمل المسئولية كلها، ويتنحى عن السلطة، ويطلب من زكريا محيى الدين أن يأخذ مكانه.
لحظتها نظرت إلى أبي.. وراعتني الصدمة التي ظهرت على وجهه وتعبير حزن ممزوج بألم لم أره عليه من قبل، وأدركت أنها كارثة. قال أبى بعد قليل ما معناه لقد سقطنا ولن يكون سهلا أن نقوم من عثرتنا.
لا أدرى كيف نمنا هذه الليلة؟ لكننا في الصباح -ودون تخطيط- كنا قد حزمنا حقائبنا وذهبنا بالتاكسي الأصفر إلى محطة سيدى جابر؛ لنأخذ قطار القاهرة. كان هناك كثيرون مثلنا سيركبون القطار، لم يكن شبك التذاكر مفتوحا، وأشار عمال المحطة لنا بالركوب دون تذاكر. كان الناس يتحركون في صمت وكأنهم في جنازة. تحرّك القطار وجلسنا متفرقين كل منا في همه. كان البعض يتكلمون في حيرة، وإذا بامرأة كانت تجلس خلفي تلمس كتفي وتسأل: “هوا إيه اللي حصل بالظبط؟ إحنا اتغلبنا؟” نظرت لها.. كانت امرأة ربما في منصف الثلاثينات، شعرها معقود بمنديل وملابسها بسيطة، ربما كانت عاملة في مصنع أو متجر، كانت ملامحها خليطا من القلق والاهتمام. قلت لها: “يبدو ذلك .. لكن الأمور لم تتضح بعد”، لكنها عاجلتنى بسؤال آخر .. “يعنى حيفوتوا في العأبة (العقبة)؟” ونظرت لها وملأتني الدهشة من سؤالها..(تبين لي بعد ذلك بسنوات كيف أنها وضعت يدها على لب الموضوع) قلت لها: “مش عارف.. لسه مش واضح إيه اللي ح يحصل”، لكنها كررت السؤال أكثر من مرة، كانت قد اختصرت المضوع في ذهنها في هذه الجزئية، لو مروا من خليج العقبة فمعنى هذا إننا هُزمنا. لا أذكر بقية حديثنا؛ لكن ظل هذا المشهد محفورا في ذاكرتي من يومها.
وصلنا القاهرة وخرجنا مع جموع كثيرة من محطة رمسيس، لم تكن هناك مواصلات وراحت أمي تبحث عن تاكسي، بينما كانت مسيرات تعبر الميدان تهتف، لا أذكر ماذا كان هتافهم لكن ظهر لورى كان مُحملا بأناس سمعتهم يهتفون “ارفض ارفض يا زكريا” ونظر لي أحدهم وابتسم، شعرت بشيء من الراحة.. الناس ترفض التنحي.. ربما تستقر الأمور.. يومها عصرا أدلى زكريا محى الدين ببيان قال فيه: “وأنا لا أقبل بأي زعامة غير زعامة جمال عبد الناصر”. في اليوم التالي سدت الجماهير المحتشدة في الشوارع، كل المنافذ إلى مجلس الأمة، وكما قال السادات الذى كان يرأس المجلس وقتها بصوت متهدج، أن الجماهير التي احتشدت، بقدر ما حالت بين الرئيس وبين الوصول للمجلس، فإنها خير ما يصله بنواب الشعب، وأبلغ الناس بعدول الرئيس عن الاستقالة أمام الضغط الشعبي.
وبدأت ملحمة إعادة بناء القوات المسلحة، ودارت حرب الاستنزاف، ودفع جمال عبد الناصر حياته في نهايتها ثمنا لجهد فاق طاقة البشر لإعادة البناء وإصلاح ما جرى من أخطاء.