ردا على سؤال حول ما إذا كانت الجزائر “مؤهلة للعب دور الوساطة بين روسيا وأوكرانيا”، قال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في مقابلة مع قناة الجزيرة، الثلاثاء 22 مارس الماضي، إن بلاده مؤهلة لمثل هذا الدور، ومؤكدًا “نحن من الدول القليلة التي لها مصداقية كافية، لإجراء وساطة في الأزمة الأوكرانية”. وهكذا، تُضيف الجزائر خطوة أخرى في “التوازن” الذي تحاوله إزاء الموقف من الوضع المتأزم في أوكرانيا؛ حيث كانت الخطوة السابقة لها هي إعادة افتتاح سفارتها في العاصمة الأوكرانية كييف.
ويبدو أن مثل هذا التوازن، وإن كان يُثير التساؤل حول الدوافع وراء السعي للقيام بالوساطة؛ فهو، في الوقت نفسه، يأتي ضمن محاولة تحقيق “خطوة استراتيجية”، تخدم مصالح الجزائر، وتُفعِّل من النهج المرن الذي تتبعه في سياستها الخارجية؛ لاسيما قبيل زيارة الدولة التي سيقوم بها الرئيس تبون إلى موسكو، في مايو القادم.
دوافع رئيسة
قبل أكثر من عام، منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، في 24 أكتوبر 2022، تبنت الجزائر مُقاربة متوازنة تجاه أطراف الأزمة، بما يضمن عدم الدخول في سياسة المحاور. وكما يبدو، فإن ثمة دوافع متعددة يستند إليها السعي الجزائري للوساطة..
من هذه الدوافع، تحقيق رغبة الأطراف في التدخل للوساطة؛ ففي حديثه، وبشأن طلب الممثل الأعلى للشئون الخارجية والسياسة الأمنية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، من الجزائر التوسط في الأزمة الأوكرانية، قال الرئيس الجزائري “نتمنى أن يقبل طرفا النزاع الوساطة”. وكان الاتحاد الأوروبي، على لسان بوريل، عبر تصريح إلى التليفزيون الجزائري، في 13 مارس، عقب لقائه مع الرئيس تبون، قد دعا الجزائر إلى “الرمي بكل ثقلها للمساهمة في حل أزمة الحرب الروسية الأوكرانية”.
ومن الواضح أن بوريل ليس الوحيد، الذي تمنى على الجزائر التدخل للعب دور الوساطة، وإن كان الأكثر علانية في هذا “التمني”؛ إذ، بعد أن تورطت في الحرب الأوكرانية، وبعد أن أصبح الاستمرار في هذه الحرب مسألة صعبة، في ظل التداعيات الاقتصادية للعقوبات المفروضة عليها من الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، يبدو أن موسكو تحاول استمالة الجزائر للوساطة مع أوروبا؛ وذلك نظرًا إلى علاقاتها المتميزة مع الجهتين، واعتمادًا على أهميتها في المنطقة الجنوبية لأوروبا.
من هنا، يمكن وضع اليد على السبب في “الثقة” الواضحة التي يتحدث بها الرئيس الجزائري، من أن بلاده “مؤهلة للقيام بالوساطة”، وأنه سيطرح هذه الفكرة خلال زيارته القادمة إلى موسكو.
من الدوافع، أيضًا، استثمار موقف التوازن بين طرفي الأزمة؛ إذ، رغم أن الجزائر لم تكن يومًا “موالية” للولايات المتحدة صراحة، أو في صف الغرب رسميًا؛ إلا أن التقارب الجزائري مع الغرب، وتحديدا مع الولايات المتحدة، قد جاء عبر ما لعبته من دور مهم في توفير معلومات استخباراتية، والمساعدة في عمليات “مكافحة الإرهاب” ضد تنظيم “القاعدة” في بلاد المغرب الإسلامي، ولاحقًا “داعش”، بحيث اضطلعت بدور محوري في “الحرب” على الإرهاب. وفي المقابل، استفادت الجزائر من المساعدات المالية الكبيرة، والدورات التدريبية، حتى بدا وكأن العلاقات الجزائرية الأمريكية في طور التحسن.
يأتي هذا في الوقت الذي يبدو فيه الاهتمام الروسي بالدور الجزائري الإقليمي، خاصة على مستوى منطقة الساحل والصحراء، كنوع من التفعيل المُقابل للدعم السياسي الجزائري لموسكو في إطار الأمم المتحدة؛ وهو الدعم الذي عبرت عنه الجزائر في موقف الحياد الذي تبنته إزاء الحرب الروسية الأوكرانية. وبالتالي، تحاول الجزائر استثمار هذا التوازن بين طرفي الأزمة الأوكرانية، في محاولة التوسط في الأزمة.
من الدوافع، كذلك، الاعتماد على أهمية قطاع الطاقة الجزائري؛ ساهمت تداعيات الحرب في أوكرانيا على أسواق النفط والغاز، في اتجاه الأنظار الدولية، خصوصًا الأوروبية منها، إلى ضفة المتوسط؛ وهو ما زاد من أهمية الجزائر، ليس فقط بصفتها موردًا للغاز إلى إيطاليا وإسبانيا ودول جنوب أوروبا؛ ولكن أيضًا كـ”لاعب رئيس”، كونها تحتل المركز الثالث، في إمداد أوروبا بالغاز.
بل، إن ما يجري هناك، في شرق أوروبا، دفع الجزائر إلى محاولة استعادة نفوذها كـ”قوة متوسطية”، اعتمادا على أهمية قطاع الطاقة لديها بالنسبة إلى أوروبا؛ و من ثم الدخول على خط محاولة الوساطة بين أطراف الأزمة الأوكرانية، مستندة في ذلك إلى علاقتها الجيدة مع الأطراف الأوروبية الفاعلة، مثل إيطاليا، خاصة بعد أن أصبحت الأخيرة، اعتبارًا من الخميس 26 مايو 2022، “الموزع الحصري للغاز في أوروبا”.
مكاسب متعددة
عبر تعاطيها “المتوازن” مع الحرب الروسية الأوكرانية، ومع محاولتها في الوساطة بينهما، تسعى الجزائر إلى تعظيم مكاسبها، خاصة الاستراتيجية منها.. وأهمها ما يلي:
فمن جانب، هناك محاولة تعزيز مكانة الجزائر كفاعل إقليمي مؤثر؛ حيث مثلت فكرة استعادة الدور الفعال للجزائر إقليميًا ودوليًا، أحد الأهداف الرئيسة للسياسة الخارجية الجزائرية، مع تولي الرئيس عبد المجيد تبون مقاليد الحكم؛ خاصة في ظل الأوضاع المضطربة التي تعيشها دول الجوار الإقليمي للجزائر، وتحديدًا مالي؛ وكذا، تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على مستوى الطاقة، الأمر الذي جعل الجزائر محط أنظار العديد من الأطراف والقوى الدولية.
ومن ثم، تبدو محاولات الجزائر في تصدر المشهد كـ”فاعل” إقليمي، حيوي ومؤثر، سواء بالنسبة لدول جوارها الجغرافي، في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل الأفريقي، أو بالنسبة إلى دول جنوب أوروبا.
ومن جانب آخر، هناك إدارة العلاقات إيجابيا مع القوى الغربية؛ فمنذ اندلاع الأزمة الأوكرانية، وقيام الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية بالتصعيد ضد موسكو، وفرض عقوبات عليها، تزايد الاهتمام الأوروبي بالجزائر، عبر توالي زيارات المسئولين الأوروبيين، وفي مقدمتهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي قام بزيارة الجزائر، في 25 أغسطس 2022، في محاولة لاستقطاب الجزائر أوروبيًا من أجل الغاز، تعويضًا عن الغاز الروسي.
إلا أن الأرقام تشير إلى صعوبة هذا التعويض؛ وبحسب موقع بوابة أفريقيا الإخبارية، 20 مايو 2022، نقلًا عن مسئول سابق في شركة سوناطراك الجزائرية، فإن الجزائر تصدر سنويًا إلى أوروبا ما يفوق 42 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي بقليل، بينما بإمكان أنبوب روسي واحد أن يضخ هذه الكميات. رغم ذلك، فإن أوروبا في حاجة إلى الغاز الجزائري، وبالتالي فإن العلاقة المتميزة للجزائر مع موسكو لن تثير حفيظة أوروبا لهذا السبب.
مسافة أمان
في هذا السياق، يمكن القول بأن السعي الجزائري للوساطة في الأزمة الأوكرانية، إنما يأتي ضمن النطاق الأوسع لنهج التوازن بين المحاور الدولية المختلفة، الذي تحاوله الجزائر، خاصة مع ارتباطها بعلاقات استراتيجية بطرفي النزاع، لأجل تعظيم دورها في المشهد الإقليمي والدولي.
ومثلما ساعد نهج التوازن المرن من جانب الجزائر، على نجاحها في إدارة علاقاتها، ليس فقط مع روسيا والدائرة الآسيوية، ولكن أيضًا مع الدول الغربية عامة؛ فإنه من المتوقع أن تحرص الجزائر بالمحافظة على “مسافة أمان” مع كافة الأطراف، لدرء الحرج عنها، لاسيما وأن للجزائر مصالح اقتصادية عميقة مرتبطة بالطاقة مع أوروبا، ومصالح استراتيجية متقاطعة مع روسيا في مجال التسليح على وجه الخصوص.