بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عُمان
في أسبوع واحد سارت العلاقات الأمريكية الإيرانية في مسارين متعارضين باعثين على الحيرة، الأول يسير في اتجاه التهدئة وحل جزء من المشكلات الغزيرة التي لا أول ولا آخر لها بين البلدين منذ ١٩٧٩.
المسار الثاني يسير في اتجاه التصعيد والالتحام العسكري بما ينذر بمواجهة إذا حدثت، لا قدر الله، ستدفع المنطقة ثمنا فادحا لها.
مسار التهدئة تمثل في توصل الولايات المتحدة وإيران بوساطة عمانية/ قطرية إلى تسوية تقوم فيها طهران بالإفراج عن 5 أمريكيين مقابل تسوية قدرها ١٠ مليارات دولار هي أصلا أموال إيرانية كانت جمدتها العقوبات الأمريكية لدى كل من كوريا الجنوبية والعراق.
وتزيد بعض المصادر على ذلك حديثا عن التوصل إلى اتفاق آخر بين الطرفين يتضمن موافقة طهران على وقف درجة تخصيب اليورانيوم لديها عند مستوى٦٠٪ وهو ما يعني أن تبقى بعيدة عن العتبة النووية ٩٠٪ القادرة فيها على إنتاج سلاح نووي.
أما المسار الثاني المنذر بالتصعيد لدرجة قد تصبح فيه المواجهة العسكرية مباشرة أو بالوكالة ليست بحاجة إلا لعود ثقاب طائش أو قرار ميداني خاطئ.. فهو إعلان واشنطن عن خطوتين عسكريتين موجهتين أساسا لإيران.
الأولى هي قرار مفاجئ بإرسال ٣٠٠٠ جندي أمريكي إضافي إلى البحر الأحمر والخليج، والثانية هي أنها ستقوم بنشر قوات لها ترافق السفن التجارية التي تعبر مضيق هرمز في رسالة واضحة لإيران أنها لن تسمح لدورياتها البحرية مرة أخرى بإيقاف السفن أو تفتيشها وتجعل لواشنطن السلطة الأعلى فيما تسميه تأمين الملاحة الدولية في الخليج.
لكن نظرة مفصلة لاتفاق الإفراج المتبادل عن أسرى مقابل الإفراج الأمريكي عن أموال إيرانية مجمدة تكشف عن محدوديته وعن اضطرار الطرفين للقبول به لمصالح مؤقتة، وتكشف -وهذا هو الأهم- عن أنه منقطع عن سياق عدائي يميز العلاقات بينهما منذ ٥٠ عاما وازداد ضراوة منذ إلغاء ترامب للاتفاق النووي ٢٠١٨ واندلاع الحرب الأوكرانية ٢٠٢٢. وتمثل صفقة استعادة المال مقابل السجناء مكاسب للطرفين دون الاضطرار لتقديم تنازلات في مواقف جوهرية: فتسمح الصفقة لإدارة بايدن وهي تتأهب لاستحقاق الانتخابات الرئاسية أن تحظى لدى الرأي العام الأمريكي بنصر معقول في مسألة تتجاوب مع الشعور بالتفوق على باقي العالم «لا يقبل معه أن تترك حكومته مواطنا أمريكيا مسجونا لدى بلد آخر» وتسمح لبايدن القول بإنه حرر أمريكيين من عدو لواشنطن دون التنازل ورفع العقوبات عنه. وتسمح الصفقة لإيران في المقابل بفوز اقتصادي هي في أمس الحاجة إليه بسبب وطأة العقوبات وهو استرداد قدرات مالية تخفف بها من الأزمة الاقتصادية وآثارها على الاستقرار السياسي الداخلي. ومن ناحية واشنطن يمكن المغامرة بالحديث عن مكسب آخر خفي وغير مباشر وهو أنه إذا قررت المضي في مواجهة عسكرية ما مع إيران، فإنها لن تكون مقيدة بوجود مواطنيها الخمسة في قبضة السلطات الإيرانية وتعريض حياتهم حينئذ للخطر. صفقة الاتفاق على إبقاء نسبة التخصيب الإيراني دون العتبة النووية تبقي الطرفين أيضا ثابتين على مواقف متباعدة أدت لإفشال مباحثات هدفت لإعادة الاتفاق النووي للحياة، ويستبدلها باتفاق حد أدنى مؤقت ترسل فيه طهران برسالة طمأنة للسعودية مفادها أنها تسعى لاستقرار المنطقة وتسعى للحفاظ على اتفاق التطبيع مع الرياض وحرمان واشنطن وتل أبيب من التآمر عليها وإعادة العداء بين ضفتي الخليج وفي الوقت نفسه هي لم تقدم أدنى تنازل عن حقها في تطوير برنامجها النووي. وتسمح هذه الصيغة للأمريكيين بتحقيق هدفهم الأول وهو الحفاظ على أمن وتفوق إسرائيل ومن ناحية أخرى، تقضي على أي ذريعة قد ينتحلها نتانياهو لشن حرب على إيران قد تفجر المنطقة بأسرها وهي حرب لا تريدها واشنطن الآن وهي توجه كل مواردها لدعم أوكرانيا في الحرب. الصفقتان إذن لا تمثلان على أي نحو تغيرا في الجوهر الصراعي للعلاقات بينهما بقدر ماهي تعبير عن البراجماتية التي يتمتع بها الطرفان. فقد أدركت واشنطن أن ليس بوسعها شن حرب على إيران والفوز بها على الأقل في الوقت الراهن، وقد أدركت طهران أن إعطاء طمأنة للإقليم بشأن نواياها النووية يسحب أي ذريعة للأمريكيين لتدمير الإنجاز الدبلوماسي بتطبيع علاقاتها مع السعودية وما يترتب عليه حاليا من تفكيك في جدار العزلة الاقليمية التي حاولت واشنطن فرضها عليها، وبالتالي إلى تراجع نسبي في فرص ماعرف بإنشاء تحالف إسرائيلي عربي/ في مواجهة إيران. وعلى عكس المسار المتقطع في التوصل إلى اتفاقات جزئية تحقق مصالح مؤقتة للطرفين نجد أن مسار التصعيد هو المسار المنتظم في العلاقات بينهما منذ انتقال إيران من وضع الحليف الأكبر لأمريكا في الخليج إلى وضع الشيطان الأكبر بعد قيام نظام الجمهورية الإسلامية. ولأسباب عديدة تتعلق بالقيمة الاستراتيجية الهائلة لإيران، فإن واشنطن لن تغير موقفها الصراعي من طهران قبل أن تعود الأخيرة حليفة كاملة لها وأي وضع غير ذلك يعد من منظور المصالح الأمريكية وضعا غير مقبول. زاد من ذلك انضمام إيران بكل وضوح إلى المعسكر الصيني الروسي المعادي للولايات المتحدة، وإعلان طهران أن الاتجاه شرقا هو هدف لا يتزعزع تجسد في تطوير علاقاتها خاصة مع بكين إلى علاقة استراتيجية باتفاق الشراكة الشاملة الذي وقعه البلدان لمدة ٢٥ عاما، وتجسد في تأكيد بكين إن إيران هي الشريك الاستراتيجي الأول لها في المنطقة. فإذا أضيف إلى ذلك ما تقول واشنطن إنه انحياز إيراني إلى روسيا في حربها مع أوكرانيا، فإن الصراع الأمريكي مع إيران صار جزءا من المعركة الصفرية الكبرى بين محور واشنطن والغرب، ومحور الصين وروسيا وإيران.. وهي معركة تحد بالطبع قدرات الردع النووي لأطرافها من تصور أن يتم حسمها بالضربة القاضية. وبالتالي هي حرب ستحسم غالبا بالنقط ويسعى كل محور الآن لتسجيل نقاط على حساب الآخر. بهذا السياق الصراعي عادت واشنطن بقوة للشرق الأوسط بعد حرب أوكرانيا وقد أرقها التسلل الناعم للنفوذ الصيني في المنطقة بما فيها اكتساب تأثير معقول على بعض أهم حلفائها مثل السعودية ومصر وتسعى لاسترداد مناطق نفوذ تمدد فيها العملاق الأصفر. التحدي الأكبر هنا هو أن معظم المناطق التي تسعى واشنطن الآن لإنذار الإقليم بحسم أنها لن تتخلى عنها هي مناطق يمثل الوجود الجيوسياسي الإيراني «الخليج» أو الوجود السياسي عبر حلفاء إقليميين «المشرق العربي والعراق» العائق الأكبر لتحويل هذا الإنذار إلى واقع. وبالتالي فإن الدفع الأمريكي نحو المواجهة المحدودة مع إيران وظهيرها الإقليمي يبدو بالنسبة للأمريكيين خيارا لا مفر منه، إذا صممت على المضي قدما في محاصرة الحضور الصيني المتزايد وفي التشبث بهيمنتها المطلقة على المنطقة. نظرة على التحركات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط خاصة هذا العام، يكشف عن نمط تدخلي مباشر كان قد تم التخلي عنه في معظم سنوات أوباما وترامب. في الخليج تزيد واشنطن من وجودها العسكري على الرغم من أنها من أكثر مناطق العالم التي يتواجد فيها لواشنطن بنية تحتية بقوات يقدرها البعض بنحو ٧٠ ألف جندي.
الجديد هو السلوك التصعيدي الذي تمثل في ارتفاع وتيرة الاحتكاكات مع البحرية الإيرانية في مضيق هرمز وتصميم واشنطن على دور مهيمن في مياه الخليج تمنع به إيران من التحايل على عقوبة حظر تصدير نفطها. وإذا نفذت واشنطن خطة نشر قواتها على السفن التجارية بما يمنع طهران من تفتيشها فإننا سنشهد تطورا في عدد ونوع الاستفزازات بين الطرفين قد يتحول واحد منها لمواجهة أكبر خارجة عن السيطرة.
وفي سوريا حيث التواجد العسكري الإيراني المباشر وفي العراق ولبنان، حيث التواجد غير المباشر عبر أطراف محلية تطور السلوك الأمريكي في الآونة الاخيرة، وأيضا، في اتجاه واحد هو الخشونة والتصعيد المتبادل مع الإيرانيين. إذ تزايدت الهجمات في سوريا بين قوات محسوبة على إيران وبين القوات الأمريكية، وتحدث أمريكيون صراحة على أن «الإيرانيين والروس يريدون إخراج أمريكا من الأراضي السورية، ولن يسمح لهم بذلك». كما بدأ بعض المحللين المناصرين لإيران والحكومة السورية يشجعون على عملية عسكرية لإخراج الأمريكيين من سوريا نهائيا، وفي حال تطورت الدعوة إلى سلوك عملي فإنها قد تصب في مسار التصعيد المحتمل نفسه بالخليج، أي في إمكان تحول المعارك المحدودة إلى مواجهة كبيرة، قد ينفلت عقالها. السؤال هنا هل تستطيع دول الخليج بعلاقاتها مع الطرفين أن تلعب دورا كابحا لهذا المسار المنذر بعواقب وخيمة؟