إن أهم ما يبرزه الموال الشعبي “حسن ونعيمة” الذي شاع في وجه بحري منذ النصف الأول من القرن الماضي، والذي يختلف في تفاصيل أحداثه عن الموال الشعبي الذي انتشر في صعيد مصر، هو تركيزه على حادثة الغدر بحسن المغنواتي وخديعته بهدف استدراجه لقتله بعيدًا عن بلدته.
والثابت أن جريمة قتل أحد المغنواتية التي حدثت بالفعل في المنيا بصعيد مصر في الثلاثينيات من القرن الماضي كانت بغرض السرقة وليس لها علاقة بأية قصة حب؛ ولكن يقال أيضًا أن قصة الحب بين حسن ونعيمة والتي بسببها قُتل حسن المغنواتي غدرًا كانت بالأساس قصة حب بين مغنواتي شاب وفتاة مسيحية انتقم أهلها منه بعد هروبها للارتباط به.
وهكذا يتضح اختلاف الروايات حول سبب وقوع جريمة القتل، وكذلك ارتباطها أولًا بصعيد مصر، وتحديدًا ببلدة تسمى منشية في مركز بني مزار بالمنيا، ثم ارتباطها بعد ذلك بوجه بحري ببلدة الدراكسة بمحافظة الدقهلية. أما تاريخ وقوع تلك الحادثة فيختلف من موال لآخر فيما بين عام 1926 وعام 1935، وكلاهما له دلالة مرتبطة بأحوال البلاد والعباد في تلك الفترة.
فمثلما يشير الموال، إلى إنه في العهد السابق، مات خلق مظلومين، وانتشرت الرشوة والغش، فإنه فعلًا قد تميزت تلك الحقبة بارتفاع أسعار السلع، مقارنة بتواضع مستوى الأجور وتأخر دفع رواتب الموظفين، فكانت الرشوة في العشرينيات من القرن الماضي، من أبرز الجرائم آنذاك، بعدما شقت طريقها في مجتمع الأفندية والموظفين.
أما في عامي 1935- 1936، فقد شهدت مصر احتجاجات جماهيرية وثورة وطنية ضد الحكم البريطاني، بالإضافة إلى مظاهرات طلابية قوبلت بالقمع العنيف؛ ولكنه لم ينجح في منع تأججها؛ ما يؤكد ما عبَّر عنه هذا الموال من تفشي الظلم في البلاد.
وذلك يؤكد اتصال المواويل الشعبية بنبض الناس، وتعبيرها عما يشغلهم وعما يعانون منه ويودون تغييره؛ ومن ثم فالموال الشعبي القصصي، ليس مجرد حكاية عابرة مسلية ولكنه يبوح بالواقع ويأبى السكوت عنه، في إطار محبب إلى النفس، ولا يخلو من الترفيه عنها، وفي ذات الوقت مشبع بالتورية.
إن حكاية حسن ونعيمة قد تكون قصة حب تقليدية، وغير جديدة في مضمونها أو غريبة في أحداثها؛ ولكنها برغم كونها قصة نسجها الخيال الشعبي من وحي الواقع الأليم، إلَّا أن جوهر تلك القصة؛ ما زال يتكرر بكل قوة، بعد مُضِي عقود طويلة عليها، ما يؤكد رسوخ المفاهيم التي تُغذي العقلية الجماعية، فلا هي تتخلى عما لديها من أفكار بالية، أو تجرؤ على مجرد إعادة التفكير فيها، من أجل الانتصار للحرية أو التطلع إلى مستقبل أفضل، وحياة أكثر بهجة وأعم سلامًا.
فقصة الحب التي يحكيها الموال الشعبي “حسن ونعيمة” والتي جمعت بين اثنين من أبناء المجتمع الريفي، ما يميزها هو أنها انتهت بجريمة قتل بشعة، تتسم بالغدر والقسوة. وتلك القصة.. بالرغم من كونها حكاية؛ نسجت تفاصيلها المخيلة الشعبية؛ إلَّا أنها في مجملها ليست خيالية أو أسطورية، بل يقبلها العقل الجمعي ولا يستبعد حدوثها، أي أنها ما زالت غير بعيدة عن التكرار، سواء في شمال مصر أو في صعيدها، بغض النظر عن تعدد دوافع تلك الجريمة.
وإذا كان فراق الأحبة، هو النهاية الحزينة لكثير من قصص الحب العاطفية الشهيرة، مثلما حدث في قصص من الإرث العربي القديم مثل: قصة قيس وليلى، وقصة جميل وبثينة، إلَّا أنه من الملاحظ أن مصير قيس وجميل كان هو الموت من فرط العشق والشوق إلى المحبوبة التي لم تعد من نصيب أي منهما، أما مصير حسن فكان هو القتل، الذي من الشائع أن تُقتَرف جريمته صونًا للأعراض وحفاظًا على الشرف في المجتمعات القبلية والريفية.
ومثلما يخبرنا الموال الشعبي “حسن ونعيمة” بأن السبب من وراء رفض عائلة نعيمة لزواجها من حسن كان هو الفوارق الطبقية المادية والاجتماعية، فإن تلك الاختلافات، بالإضافة إلى الاختلاف العقدي ما زالت تقف عائقًا أمام الكثير من قصص الحب، فلا تتحقق السعادة المنشودة من الحب؛ بل يكون تجرع الآلام هو المصير المحتوم الذي لا مهرب منه.
لذلك فإن جريمة القتل هي ما يجب الوقوف عنده، لتأمل عقلية الجماعة الشعبية في كثير من المجتمعات، فربما تكون تلك الواقعة، قد أُلبِست ثوبًا من الأعراف والأطماع؛ كي يُخفي ما يُخشى البوح به من سبب حقيقي وراء تلك الجريمة. وبذلك تستمر آفة إدعاء التمسك بالإيمان دون إدراك واعٍ لجوهر العقائد التي لا يليق بشرائعها إلَّا أن تحث على السلام والأمن والتراحم والتعارف، بينما البشر هم من يُلبسون العقائد ثوب الدماء بدون أي داعٍ مقبول، أو مبرر منطقي سوى اتباع الهوى.
كما أنه من اللافت للنظر.. أن دفن نعيمة لرأس حسن بعد قطعها على يد قتلته؛ لم يكن فقط بهدف إخفائها عن الأنظار، ولكن كانت له دلالة مرتبطة بأسطورة قديمة في الذاكرة الشعبية المصرية تعود إلى مصر القديمة، وهي أسطورة مقتل أوزيريس وتجميع إيزيس لأجزاء جثته، كي تعود إليها الحياة من جديد. وكأن احتفاظ نعيمة برأس حسن -مثلما يحكي الموال الشعبي- له ارتباط برغبة نعيمة الدفينة في عودة حسن إلى الحياة من جديد، ورفضها لمقتله وموته. ليظل بذلك الموال الشعبي يحمل من عبق التاريخ والتراث القديم الكثير من الأفكار المتوارثة منذ القدم، فيما يخص تمسّك المصريين بعقيدة البعث وعدم الفناء، وهو ذلك الأمر الذي بات محفورًا في وجدانهم ولا تنكره عقولهم.
لذلك علينا كلما استمعنا إلى ذلك الموال الشعبي الشهير- أن ننتبه إلى ما يبثه في ضمائرنا من بشاعة جريمة القتل التي ارتكبت في حق الحبيبين حسن ونعيمة؛ كي نعيد التفكير بشأن كيفية التغيير من تلك العقلية القمعية المستهينة بدماء الأبرياء؟
كما علينا أن نتساءل عن تلك الحكايات، التي تمت صياغتها من وحي الواقع المعاش، والتي تحتفظ بها الذاكرة الشعبية، هل بالفعل ما زال هناك من يحكيها ويتغنى بها إلى الآن؟ وهل ما زالت هناك مقدرة على إحيائها وإعادة سردها من جديد، وعلى نحو مختلف سواء بتفاصيل واقعية دقيقة أم بإضافات جديدة من وحي الخيال تجنبًا للملل الذي ينتج عن فرط التكرار، أو رغبة في التواؤم مع البيئة التي صارت الحكاية تُروَى بين جنباتها، والتي تتغير أحوالها كل يوم؟
وهل من الممكن أن تكون هناك رؤية مختلفة، لحكاية حسن ونعيمة، تنصت إليها الآذان أو تستمتع بمشاهدتها الجماهير، وفي نفس الوقت تساعد المجتمع على مكافحة جرائم قتل الأبرياء، دون خشية المساس بهيبة أية سلطة في المجتمع؛ حتى لو كانت تلك السلطة دينية؟
إن تواصل التجديد في القصص والحكايات الشعبية التراثية، لن يدعم فقط ترسيخ معالم الشخصية المصرية بالحفاظ على أصالتها وهُويتها؛ ولكنه أيضا سيبرهن على قدرة الفن والثقافة على تغيير حياة عامة الناس، كي تكون أفضل، فإذا بهم قادرون على الاعتراف بالحق في الحب، فيكون له الأولوية على كل الأعراف المتحجرة والتقاليد البالية، ويفهمون الدين والشرع على نحو رحب، يسمح للإنسان بحياة متوازنة، لا تهمل العاطفة ولا تنجرف نحو الباطل والضلال.
آنذاك.. لن تتمكن أعراف المجتمع أو أطماع البشر، من التسلط على الضعفاء فتقهرهم، أو على النساء فتسحقهم، أو على القلوب المحبة فتحرمها من الاستمتاع بما يهبه الحب من سعادة وهناء.
وحينئذٍ لن تكون قصة حب حسن ونعيمة مجرد حكاية تثير الحزن والحسرة والعجز عن تغيير الواقع، أو مجرد موال حزين يحرك مشاعر الحب الدفينة في قلوب المحرومين، أو مجرد أغنية كتلك التي غنَّاها المطرب محمد رشدي عن حسن المغنواتي منذ عدة عقود؛ بل ستكون قصص التراث محفزة للتفكير وباعثة للتأمل ودافعة إلى التغيير.
والتنقيب في قصص التراث الشعبي المصري؛ هو ما حدث بالفعل عندما بادر الكاتب عبد الرحمن الخميسي، بصياغة حكاية حسن ونعيمة في شكل درامي في مسلسل إذاعي، ثم في فيلم سينمائي، وكان ذلك في الخمسينيات من القرن الماضي. وفي كلا العملين ركز الخميسي على قصة الحب بين حسن ونعيمة، وعلى انتصار الحب والخير في النهاية؛ ومن ثم القدرة على تحقيق العدل في اللحظات الأخيرة، وبذلك لم يُحمِّل المستمع أو المشاهد أية مسئولية تجاه تغيير واقعه – خاصة إذا كانت تلك الحكاية جزءًا منه بالفعل؛ فإذا به يكتفى فقط بلفت الانتباه إلى ما يمكن أن يقع من ظلم وتسلط، وكيف انتهى كل منهما بشكل يرضي المتلقي ويريحه دون أن يكلفه أي عناء أو مشقة. ومع ذلك يُحسَب لهذا الكاتب والفنان الشامل، أنه كان أول من قدَّم تلك القصة الشعبية على الساحة الدرامية في مصر.
وبعد سنوات قليلة وفي عام 1964، ظهر للنور عمل آخر بديع كان هو المسرحية المستوحاة من الموال الشعبي حسن ونعيمة، والتي كتبها شوقي عبد الحكيم، وأخرجها كرم مطاوع برؤية إبداعية تتجاوز قصة الحب، وتركز على آثار جريمة القتل وجدوى الاعتراف بها من أجل القضاء على الخوف، والدعوة إلى التحرر.
ومنذ عامين.. كانت هناك أيضًا مسرحية غنائية، للمخرج المسرحي سعيد سليمان، بعنوان “طقوس العودة” وهي مستوحاة من قصة حسن ونعيمة، وتستعرض ثلاثية الحياة والحب والحرية.
وبالفعل قد تكون بضعة أعمال درامية مستوحاة من الموال الشعبي “حسن ونعيمة” ليست بالعدد الكبير على مدار عقود طويلة، ولكنها على أية حال تمثل جزءًا من أعمال أخرى مستوحاة من قصص وحكايات شعبية تراثية، ولذلك لابد من الاستمرار في إضافة المزيد من الأعمال الفنية الدرامية التي تهتم بحكايات التراث الشعبي، وكذلك عدم إهمال التجديد فيما يُعرَف بأدب الفلاحين، وفي الفن الغنائي الشعبي – وخاصة فن الموال القصصي.