من حيث إن القرءان “كتاب مُنَزَّل” من عند الله سبحانه وتعالى، والرسم القرءاني توقيفي ترتيلي، من عنده عزَّ وجل، وليس عثمانيًا؛ بل، وليس بالأصل سنيًا نبويًا، ولا إرشاديًا إماميًا؛ وإنما هو قرءاني توقيفي ترتيلي.. لذا قلنا ونقول ونؤكد أن هناك ضرورة في محاولة الكشف عن دلالات الألفاظ والمصطلحات القرءانية؛ بل ومحاولة القيام بذلك عبر تدبر الآيات القرءانية من خلال لسانها (اللسان القرءاني) وسياقها ودلالة ألفاظها وتعبيراتها واصطلاحاتها؛ بل وأسلوب كتابتها من خلال الرسم القرءاني.
إذ لما كان المصطلح -أي مصطلح- هو “أداة العقل المُجَرَدَة في الإشارة إلى المعنى” بالشكل الذي يُعتبر فيه مثل الآلة تمامًا، لها مُجَرَدْ واحد هو اسمها المأخوذ من، والدال في الوقت نفسه على، عملها وإنتاجها؛ ومن ثم، يتوجب تعريفه، أو استكشاف هذا التعريف؛ لذا يمكن القول بأن المصطلح يأخذ أحد جانبين اثنين، أو كليهما معًا: الجانب “المادي العضوي”، والجانب “المعنوي الوظيفي”، حيث لكل منهما التصور الخاص به في “الذهن الإنساني”.
بناءً على ذلك، لنا أن نشير إلى ما أنهينا به حديثنا السابق، حول “المصطلح القرءاني.. ودلالة التاء المعنوية”؛ من أن “المؤشر الدلالي” للمفهوم، هو الذي يُحدد الفارق بين الجانب “المادي العضوي”، وبين الجانب “المعنوي الوظيفي” للمصطلح القرءاني.
هنا لنا أن نؤكد على دلالات اختلاف رسم حرف آخر، فضلًا عن حرف “التاء” الذي كنا قد تناولناه في حلقتين متتاليتين؛ هذا الحرف هو حرف “الألف”، الذي يُعبر عن إحدى الظواهر في الرسم القرءاني؛ نعني مجئ اللفظ الواحد مرسوما بألف في موضع، وبغير ألف في موضع آخر. ومن المنطقي أن هذا الاختلاف في “المبنى”، يترتب عليه اختلاف في “المعنى”؛ وبالتالي، تختلف دلالات اللفظ بحسب اختلاف الرسم القرءاني لحرف الألف.
ولعل أحد الأمثلة التي يمكن أن نذكرها، في هذا المجال، هو اختلاف رسم لفظ “طَآئِفٞ” مع تثبيت حرف الألف في موضع، عنه في موضع آخر بغير الألف “طَٰٓئِفٞ”؛ وهو اختلاف، من حيث الرسم القرءاني، له دلالاته. ومعنى “طائف”، من الطواف، والطواف بالشيء الاستدارة به أو حوله، يُقال طاف بالشيء إذا دار حوله.
في الموضع الأول، يقول سبحانه: “فَطَافَ عَلَيۡهَا طَآئِفٞ مِّن رَّبِّكَ وَهُمۡ نَآئِمُونَ” [القلم: 19]؛ وهنا، لنا أن نلاحظ أن الفعل “طَافَ” قد أسند إلى “طَآئِفٞ”. أيضًا فإن خاتمة الآية تُشير إلى حالهم “وَهُمۡ نَآئِمُونَ”.
ومن ثم، يبدو بوضوح أن البلاء الذي طاف حولهم ووقع بهم، هو بلاء مادي عضوي، وليس مجرد “طيف” يراه النائم كما يذكر البعض. وبالتالي، فإن “الألف” بوصفه مؤشرا دلاليا ثُبِّتَ في الفعل “طاف”، إنما يؤشر إلى الجانب المادي العضوي للمصطلح القرءاني “طَآئِفٞ”.
في الموضع الآخر، يقول تعالى: “إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ إِذَا مَسَّهُمۡ طَٰٓئِفٞ مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ” [الأعراف: 201]؛ وهنا لنا أن نلاحظ أن الفعل “مَسَّهُمۡ” قد أُسنِدَ إلى “طَٰٓئِفٞ” أيضًا، فإن خاتمة الآية تُشير إلى حالهم “فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ”، وذلك بعد أن “تَذَكَّرُواْ”.
ومن ثم، يبدو بوضوح أن التعبير عن ما “مَسَّهُمۡ… مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ” بأنه “طَٰٓئِفٞ”، هو إشعار بأن “وسوسة” الشيطان، وإن مست هؤلاء “ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ”، فإنها لم تؤثر فيهم، لأنها كأنها “طافت” حولهم دون أن تصل إليهم. وبالتالي، فإن “الألف” بوصفه مؤشرا دلاليا لم يثبَّت في الفعل “طاف”، إنما يؤشر إلى الجانب المعنوي الوظيفي للمصطلح القرءاني “طَٰٓئِفٞ”.
والأهم -في هذا الإطار- أن نلاحظ أن “طَآئِفٞ”، التي ثُبِّتَ فيها حرف الألف، في الآية الكريمة الأولى [القلم: 19]، إنما يُرد إلى “مِّن رَّبِّكَ”؛ في حين أن “طَٰٓئِفٞ”، التي لم يثبت فيها حرف الألف، في الآية الكريمة الثانية [الأعراف: 201]، إنما يُرد إلى “مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ”.
أيضًا نلاحظ أن حرف الفاء في “تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ”، هي لتفريع الإبصار على التذكر، بما يؤكد أن ارتباط “فاء” التعقيب بـ”إذا” الفجائية الدالة على الحتمية، تؤشر إلى حصول مضمون جملتها دَفعة بدون تريث.. أي: إن الذين اتقوا، تذكروا تذكر ذوي عزم فلم تتريث نفوسهم بعد أن تَبين لها الحق الوازع عن العمل بالوسوسة الشيطانية، فإذا هم ثابتون على هداهم وتقواهم؛ حيث إن التذكر هو “استحضار المعلوم السابق”.
وبالطبع، ليس هذا هو المثال القرءاني الوحيد الذي يُمكن الاستشهاد به، على حرف “الألف” بوصفه مؤشرا دلاليا، على الجانب المادي العضوي في حال ثُبِّت مع الفعل، أو على الجانب المعنوي الوظيفي في حال لم يثبت مع الفعل.
ضمن عديد من الأمثلة الدالة على حرف “الألف” بوصفه مؤشرا دلاليا؛ يأتي لفظ “شاهد”، التي وردت في كتاب الله الكريم في سبعة مواضع.. منها أربعة مواضع ثُبِّت فيها حرف الألف، في حين ورد ثلاثة منها لم ثُبِّت فيها حرف الألف.
بالنسبة إلى المواضع الثلاثة الأخيرة.. يقول سبحانه وتعالى: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا” [الأحزاب: 45]؛ ويقول سبحانه: “إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا” [الفتح: 8]؛ ويقول تعالى: “إِنَّآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ رَسُولٗا شَٰهِدًا عَلَيۡكُمۡ كَمَآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ رَسُولٗا” [المزمل: 15].
وكما يبدو في هذه الآيات الكريمات الثلاث، فقد ورد لفظ “شَٰهِدًا” دون تثبيت حرف الألف؛ بما يدل، على الجانب المعنوي الوظيفي للفظ. يتبدى ذلك بوضوح، إذا لاحظنا أن الآيات الثلاث تختص بالإخبار عن الرسول الكريم، عليه الصلاة والسلام؛ حيث وردت صيغة الفعل “أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا” في آيتين، للدلالة على ما يحمله الرسول من “رسالة”، بما يؤكد أن المقصود هو “تبليغ الرسالة”؛ هذا، رغم أن مُفتتح الآية الأولى [الأحزاب: 45]، هو “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ”، لكن سياق الآية الكريمة “إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا”، كما الآية الكريمة الثانية [الفتح: 8]، يؤكد أن الدلالة تتعلق بـ”الرسالة”، من حيث كون الرسول عليه الصلاة والسلام “شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا”
وهو ما يدل، مرة أخرى، على أن عدم تثبيت حرف الألف في اللفظ القرءاني، إنما يؤشر إلى الجانب المعنوي الوظيفي؛ تمامًا، مثلما جاء في الآية الكريمة الثالثة [المزمل: 15]، حيث ترد الصيغة “أَرۡسَلۡنَآ… رَسُولٗا… أَرۡسَلۡنَآ… رَسُولٗا”، للدلالة على أن الهدف هو تبليغ الرسول للرسالة؛ وبالتالي، يكون “شَٰهِدًا عَلَيۡكُمۡ”، وهو ما يؤكد، من جديد، على الجانب المعنوي الوظيفي للمصطلح القرءاني “شَٰهِدًا”.
فماذا، إذا، عن المصطلح القرءاني “شَاهِدٞ”، الذي يثبت حرف الألف؟
للحديث بقية.