يأتي حرف “الألف”، ليُعبر عن إحدى أهم الظواهر في الرسم القرءاني، من حيث اختلاف دلالة المصطلح باختلاف الرسم القرءاني له؛ نعني مجيء اللفظ الواحد مرسوما بألف في موضع، وبغير ألف في موضع آخر. ومن المنطقي أن هذا الاختلاف في “المبنى”، يترتب عليه اختلاف في “المعنى”؛ وبالتالي، تختلف دلالات اللفظ بحسب اختلاف الرسم القرءاني لحرف الألف.
وضمن عديد من الأمثلة على حرف “الألف”، كمؤشر دلالي؛ يأتي لفظ “شاهد”، الذي ورد في كتاب الله الكريم في سبعة مواضع؛ منها أربعة مواضع تم فيها تثبيت حرف الألف “شَاهِدٞ”، في حين ورد ثلاثة منها لم يتم فيها تثبيت حرف الألف “شَٰهِد”.
وقد وصلنا في حديثنا السابق، إلى أن ورود مصطلح “شَاهِدٞ” الذي يتم فيه تثبيت حرف الألف، يأتي للدلالة على الجانب المادي العضوي للفظ؛ في حين أن ورود المصطلح “شَٰهِد” دون تثبيت حرف الألف، يأتي للدلالة على الجانب المعنوي للفظ.
وهنا، سنحاول أن نتناول مثالًا آخر، ضمن الأمثلة القرءانية الدالة على أن اختلاف الرسم القرءاني للفظ، والذي يؤدي إلى اختلاف دلالته؛ وهذا اللفظ هو “طغى”. إذ، ورد لفظ “طغى” ومشتقاته في تسعة وثلاثين موضعًا، من آيات الذكر الحكيم، بصيغ وتصريفات مختلفة (طغى، يطغى، طغوا، طغيان، طاغوت.. إلخ)؛ إلا ن ما يجمعها معًا هو معنى “مجاوزة الحد”، أي “تجاوز الحد في أمر ما”.
فإذا تناولنا لفظ “طغى”، تحديدًا، دون مشتقاته، نجد أنه يُشير إلى من “تجاوز الحد وتجبَّر وأسرف في أمر ما”. وهذا اللفظ، ورد كمصطلح قرءاني في “ستة” مواضع؛ عبر رسمين قرءانيين.. الأول، تم فيه تثبيت حرف الألف “طَغَا”، في حين ورد في المواضع الخمسة الأُخرى دون تثبيت حرف الألف “طَغَىٰ”.
في الموضع الأول، يرد المصطلح “طَغَا”، في قوله عزَّ وجل: “إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلۡمَآءُ حَمَلۡنَٰكُمۡ فِي ٱلۡجَارِيَةِ” [الحاقة: 11]؛ وكما يبدو بوضوح فإن تثبيت حرف الألف في “طَغَا”، كمؤشر دلالي، إنما يدل على الجانب المادي العضوي لـ”تجاوز الماء الحد”، من حيث الارتفاع والعلو؛ بما يعني أن المصطلح “طَغَا” قد تم استخدامه لـ”الطغيان المادي”، أي تجاوز الحد في الجوانب المادية العضوية، خاصة عندما نُلاحظ خاتمة الآية الكريمة “حَمَلۡنَٰكُمۡ فِي ٱلۡجَارِيَةِ”.
أما في المواضع الخمسة الأخرى، يرد المصطلح “طَغَىٰ” دون تثبيت حرف الألف؛ ومنها قوله سبحانه وتعالى: “ٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ” [طه: 24]. وكما يبدو، فإن مصطلح “طَغَىٰ”، هنا، يأتي للدلالة على “الطغيان المعنوي”، أي تجاوز الحد في الجوانب المعنوية الوظيفية؛ والدليل على ذلك، هو سياق الآية الكريمة مع الآيات التالية لها. يقول سبحانه: “ٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ ٭ قَالَ رَبِّ ٱشۡرَحۡ لِي صَدۡرِي ٭ وَيَسِّرۡ لِيٓ أَمۡرِي ٭ وَٱحۡلُلۡ عُقۡدَةٗ مِّن لِّسَانِي ٭ يَفۡقَهُواْ قَوۡلِي” [طه: 24-28]. إذ، لنا أن نلاحظ كيف ورد مصطلح “طَغَىٰ”، في سياق معنوي وظيفي “ٱشۡرَحۡ… وَيَسِّرۡ… وَٱحۡلُلۡ… يَفۡقَهُواْ…”.
وفي موضع آخر، يرد، كذلك، مصطلح “طَغَىٰ” للدلالة على طغيان فرعون المعنوي الوظيفي؛ وذلك في قوله سبحانه وتعالى: “ٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ” [النازعات: 17]؛ إذ، أيضًا، يرد مصطلح “طَغَىٰ”، في سياق معنوي وظيفي، وذلك في قوله تعالى: “ٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ ٭ فَقُلۡ هَل لَّكَ إِلَىٰٓ أَن تَزَكَّىٰ ٭ وَأَهۡدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخۡشَىٰ” [النازعات: 17-19].
وإذا كان الخطاب القرءاني، في هاتين الآيتين الكريمتين [طه: 24؛ النازعات: 17]، قد جاء في صيغة المفرد، من منظور أن الخطاب موجَّه إلى موسى عليه السلام؛ ففي موضع ثالث يرد مصطلح “طَغَىٰ”، في صيغة المُثنى، حيث الخطاب موجَّه إلى موسى وأخيه عليهما السلام؛ وذلك في قوله سبحانه: “ٱذۡهَبَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ” [طه: 43].
وهنا، يتأكد لدينا أن ورود مصطلح “طَغَىٰ”، دون تثبيت حرف الألف، إنما يأتي للدلالة على الطغيان المعنوي الوظيفي لما كان عليه فرعون؛ ولعل هذا التأكد ينبني على السياق الذي وردت فيه الآية الكريمة مع الآيات التالية لها، وذلك في قوله تعالى: “ٱذۡهَبَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ ٭ فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلٗا لَّيِّنٗا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوۡ يَخۡشَىٰ ٭ قَالَا رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفۡرُطَ عَلَيۡنَآ أَوۡ أَن يَطۡغَىٰ ٭ قَالَ لَا تَخَافَآۖ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسۡمَعُ وَأَرَىٰ” [طه: 43-46]. إذ، كما يبدو فإن السياق القرءاني، لهذه الآيات الكريمات، هو سياق معنوي وظيفي دال بألفاظه ومصطلحاته “فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلٗا لَّيِّنٗا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوۡ يَخۡشَىٰ”؛ بل، لنا أن نُلاحظ كيف ورد اللفظ “يَطۡغَىٰ”، دون تثبيت حرف الألف أيضًا، كمؤشر دلالي على الجانب المعنوي الوظيفي لـ”الطغيان”.
وفي الإطار ذاته، يأتي مصطلح “طَغَىٰ”، في قوله سبحانه: “مَا زَاغَ ٱلۡبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ” [النجم: 17]. وأيضًا، في قوله تعالى: “فَأَمَّا مَن طَغَىٰ” [النازعات: 37]؛ خاصة إذا لاحظنا أن السياق الذي يتضمن هذه الآية الكريمة، ينبني على دلالات معنوية وظيفية، حيث يقول سبحانه وتعالى: “فَإِذَا جَآءَتِ ٱلطَّآمَّةُ ٱلۡكُبۡرَىٰ ٭ يَوۡمَ يَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَٰنُ مَا سَعَىٰ ٭ وَبُرِّزَتِ ٱلۡجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ ٭ فَأَمَّا مَن طَغَىٰ ٭ وَءَاثَرَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا ٭ فَإِنَّ ٱلۡجَحِيمَ هِيَ ٱلۡمَأۡوَىٰ ٭ وَأَمَّا مَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفۡسَ عَنِ ٱلۡهَوَىٰ ٭ فَإِنَّ ٱلۡجَنَّةَ هِيَ ٱلۡمَأۡوَىٰ” [النازعات: 34-41].
وهكذا، يتبين بوضوح أن حرف “الألف”، كمؤشر دلالي، إنما يأتي ليُعبر عن إحدى الظواهر في الرسم القرءاني، من حيث اختلاف دلالة المصطلح باختلاف الرسم القرءاني له؛ ففي حال التثبيت، يأتي الألف للدلالة على الجانب المادي العضوي؛ وأما في حال لم يتم تثبيت الألف، يدل المصطلح على الجانب المعنوي الوظيفي.
ولنا أن نُلاحظ، أيضًا، في الإطار ذاته، كيف أن تثبيت حرف “الألف” في المصطلح “طَغَا”، يُضيف بُعد الارتفاع والعلو بالنسبة إلى تجاوز الماء الحد المادي العضوي. أما في حال لم يتم تثبيت حرف “الألف”، وتم اقتصار الرسم القرءاني على “الألف المقصورة” أو “اللينة”، في المصطلح “طَغَىٰ”، فهي تُضيف بُعد السقوط لحال من “طَغَىٰ”، حيث الجانب المعنوي الوظيفي لـ”الطغيان” المنهي عنه بفحوى الخطاب القرءاني.
فهل هناك أمثلة أُخرى على دلالات حرف “الألف”؟
للحديث بقية.