تُعد الانتخابات المحلية في العراق، التي تُعرف بانتخابات مجالس المحافظات، الخطوة الأولى في رسم الخريطة السياسية في البلاد؛ كونها تُعبر عن ائتلافات وتحالفات سياسية، تسعى -من خلال الانتخابات- إلى تشكيل الحكومات المحلية للمحافظات؛ ومن ثم قياس مدى قوتها في إمكانية السيطرة على مفاصل الدولة والمجتمع، خاصة أن المجالس المحلية معنية، بالدرجة الأولى، بتقديم الخدمات الأساسية لسكان المحافظات، بما يسمح لهذه المجالس بتطويع مواردها في اجتذاب مناصرين لها، استعدادا للانتخابات البرلمانية القادمة، في عام 2025.
ورغم ما تُمثله هذه الانتخابات، التي أُجريت الاثنين 18 ديسمبر، من أهمية سياسية على الساحة العراقية؛ ورغم أن نتائجها سوف تُحدد حصص الأحزاب والقوى السياسية من مجالس المحافظات، ودورها في التشريع والرقابة داخل المحافظات.. إلا أن الانتخابات الحالية، رغم كل ذلك، تنطوي على ظاهرة غير اعتيادية، في الانتخابات العراقية؛ وهي ظاهرة “تفكك التحالفات” القائمة.
ومن هنا، تأتي أهم دلالات الانتخابات العراقية، خاصة في ما يتعلق بالتحالفات الكبرى، سواء على مستوى التكتل الشيعي أو التحالفات السنية؛ فضلا عن تداعياتها على ما شهدته من “تفكك التحالفات” التي كانت قائمة قبل إجرائها.
في بيان لها، أشارت مفوضية الانتخابات أن نسبة المشاركة بلغت 41 % إلا أن هذه النسبة يبدو أنها قد احتسبت قياسا إلى عدد العراقيين، الذي حدّثوا بطاقاتهم الانتخابية، ويبلغ العدد 16 مليون ناخب؛ في حين أن عدد من يحق لهم الانتخاب يصل إلى نحوٍ من 23 مليونا من الناخبين.
رغم ذلك، تبدو أهم المؤشرات الناتجة عن هذه الانتخابات.. كما يلي:
أولًا: إشكالية “الإطار التنسيقي” للقوى الشيعية؛ فقد كان من المفترض أن تكون مقاطعة التيار الصدري، فرصة مُفيدة لقوى الإطار التنسيقي، الذي كان يطمح إلى حصد أصوات الناخبين الشيعة، في بغداد؛ إلا أن النتائج لم تعكس شيئًا من ذلك، سوى أن ائتلاف “دولة القانون” الذي يقوده نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي السابق، استطاع المنافسة بشدة على المركز الأول.
أضف إلى ذلك، أن خريطة التحالفات الشيعية قد شهدت، مؤخرًا وقبل انطلاق الانتخابات، عددًا من التغيرات، أبرزها ما يتعلق بقوى الإطار التنسيقي، وهي إحدى مكونات ائتلاف “إدارة الدولة”، الذي شكل الحكومة العراقية الحالية؛ حيث شاركت هذه القوى، ليس ككتلة انتخابية موحدة، ولكن عبر أربعة تحالفات، أو قوائم انتخابية. وهو ما يعني أن القوى المنضوية داخل الإطار تفككت إلى عدة تحالفات، كلٌ حسب خطه السياسي؛ هذا بالإضافة إلى الأحزاب الشيعية الدينية، التي شكّلت تحالفا مُنفردا.
ثانيا: تداعيات مقاطعة الصدريين للانتخابات؛ إذ تأتي هذه المُقاطعة في الوقت الذي يسعى فيه أركان تحالف “الإطار التنسيقي للقوى الشيعية” السيطرة على مفاصل الدولة العراقية، عبر البرلمان، ومن خلال انتخابات مجالس المحافظات؛ خاصة أن الإطار يُمثل الكتلة البرلمانية الأكبر، التي تضم معظم الميليشيات الموالية لإيران.
وكما يبدو.. فقد استطاع خصوم الصدر من الشيعة، الذي عرقلوا محاولته لتشكيل حكومة بعد فوزه في الانتخابات البرلمانية، في عام 2021، على نسبة كبيرة من مجالس المحافظات، لاسيما في المحافظات الجنوبية التي تقطنها أغلبية شيعية. ومن شأن ذلك أن يُساهم في تعزيز قوة الائتلاف الشيعي الحاكم، المعروف باسم الإطار التنسيقي المُقرب من إيران؛ بل، ويُساعد على المزيد من التحكم في ثروات البلاد النفطية، التي يمكن إنفاقها على المشروعات والخدمات المحلية؛ خاصة أن التحالف -بالفعل- يُشكل أكبر كتلة في البرلمان، بعد انسحاب أعضاء التيار الصدري منه.
ثالثًا: فاعلية الحلبوسي وانقسامات التحالف السُني؛ حيث تمكن الحلبوسي من التنافس على المراتب الأولى في بغداد، بما يعني كسر القاعدة الراسخة منذ عام 2003، بأن يكون منصب المحافظ حكرًا على القوى الشيعية. وفي ما يبدو أن تقدم القوى السُنية؛ قد أضاف صعوبة إلى هذا التقليد الذي يمتد إلى عشرين عامًا مضت؛ وهو ما يؤشر إلى المفاوضات الشاقة التي ستكون طريقًا إلى صيغة التحالف السياسي الذي سيحكم العاصمة العراقية.
إلا أن حالة من التفكك بالنسبة إلى تحالف السيادة السُني قد حدثت؛ حيث إن حزب “تقدم” الذي يتزعمه محمد الحلبوسي، وتحالف “عزم” الذي يقوده خميس خنجر، قد شاركا في الانتخابات بقوائم مُنفصلة؛ وذلك في محاولة لاستفادة كل طرف من نتائج الانتخابات، في المحافظات التي يتمتع فيها كل منهما بشعبية كبيرة.
رابعًا: تفكك التحالفات السياسية للقوى المدنية؛ إذ رغم أن الأحزاب العراقية، ذات التوجه المُعارض، التي كانت قد تشكلت بعد موجة الاحتجاجات، في أكتوبر 2019، في تشكيل تحالف “قيم” الذي يُمثل نجاحا في تخطي عقبة قانون الانتخابات المُعدَّل “سانت ليغو 1.7″؛ إلا أن هذا التحالف دخل الانتخابات عبر 400 مرشح، في 12 محافظة عراقية؛ وفي الوقت نفسه شهد صراعات داخلية؛ نتيجة اختلاف تكويناته من المنظور السياسي والفكري، حيث ينضوي في إطاره أحزاب يسارية وأخرى ليبرالية، فضلا عن قوى أخرى لا تمتلك وجودا فاعلا في الشارع العراقي.
من جانب آخر، يأتي تشكيل تحالف “الأساس” من ائتلاف عدة أحزاب، ليُضيف بُعدًا آخر إلى عملية تفكك التحالفات السياسية للقوى المدنية؛ وذلك من حيث إنه يضم 19 نائبا كانوا في تشكيلات سياسية على صلة بما يُطلق عليه “الاحتجاج التشريني”، نسبة إلى احتجاجات أكتوبر 2019. وقد استغل التحالف الانتخابات، في تقديم نفسه، على أنه قوة مدنية؛ بل واستغل مفردات الخطاب الاحتجاجي في منافسة تحالف “قيم” لاستهداف الجمهور المدني.
خامسًا: مُفارقة شياع السوداني وانتخابات “كركوك” إذ خلافا لغالبية رؤساء الوزراة في العراق، فقد اختار تيار “الفراتين” الذي يتزعمه محمد شياع السوداني، رئيس الوزراء العراقي، عدم خوض هذه الانتخابات؛ هذا بينما كان حلفاء التيار، وحلفاء السوداني، يخوضون سباقًا محمومًا للفوز بمقاعد في محافظات الجنوب والوسط.
ورغم أن قرار تيار الفراتين، قد أثار تفسيرات متباينة؛ إلا أن المُفارقة التي بدت لافتة، هي إجراء الانتخابات في محافظة كركوك، للمرة الأولى منذ عام 2005؛ حيث إن الحكومات المتعاقبة لم تتمكن من تنفيذ هذا الاستحقاق الانتخابي طوال هذه السنوات، لأسباب سياسية وأمنية. والمُلاحظ، أن السوداني، الذي لم يُشارك في الانتخابات، استطاع تحقيق “فوزًا سياسيًا مُهمًا”، بعدما تمكن من تفكيك واحدة من عُقد المدينة، المضطربة بين ثلاثة مكونات قومية: العرب والكرد والتركمان.
تغيرات سياسية
في هذا السياق، يُمكن القول بأن المشهد السياسي العراقي على موعد مع “تغييرات سياسية” جديدة؛ خاصة أن هذه الانتخابات ساهمت في تفكك التحالفات القائمة، بين الكتل السياسية العراقية، سواء الشيعية أو السنية، فضلا عن القوى المدنية.
وهو ما يؤكد، ليس فقط على أن خريطة التفاعلات السياسية، التي كانت قائمة على مدار الأشهر الماضية ستتغير ملامحها؛ ولكن أيضا يؤكد على أن هذه الانتخابات قد قدمت الفرصة كاملة إلى الأحزاب والتيارات الحليفة لإيران، التي تمتلك أغلبية برلمانية، وتُمثل الأحزاب الشيعية التقليدية وبعض فصائل الحشد الشعبي.